الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الشفا بتعريف حقوق المصطفى ***
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى عِصْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَكِفَايَتِهِ مِنْهُ، لَا فِي جِسْمِهِ بِأَنْوَاعِ الْأَذَى، وَلَا عَلَى خَاطِرِهِ بِالْوَسَاوِسِ. وَقَدْ أَخْبَرَنَا الْقَاضِي الْحَافِظُ أَبُو عَلِيٍّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ خَيْرُونَ الْعَدْلُ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ، وَغَيْرُهُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا عِيسَى الْتَّرْقُفِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَسْرُورٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ، وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ». قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَإِيَّايَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ». زَادَ غَيْرُهُ عَنْ مَنْصُورٍ: «فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ». وَعَنْ عَائِشَةَ بِمَعْنَاهُ. وَرُوِيَ: فَأَسْلَمُ بِضَمِّ الْمِيمِ، أَيْ فَأَسْلَمُ أَنَا مِنْهُ. وَصَحَّحَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَرَجَّحَهَا. وَرُوِيَ: فَأَسْلَمَ يَعْنِي الْقَرِينَ أَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ حَالِ كُفْرِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَصَارَ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِخَيْرٍ، كَالْمَلَكِ. وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ. وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ: فَاسْتَسْلَمَ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّهُ: فَإِذَا كَانَ هَذَا حُكْمَ شَيْطَانِهِ وَقَرِينِهِ الْمُسَلَّطِ عَلَى بَنِي آدَمَ، فَكَيْفَ بِمَنْ بَعُدَ مِنْهُ، وَلَمْ يَلْزَمْ صُحْبَتَهُ، وَلَا أُقْدِرَ عَلَى الدُّنُوِّ مِنْهُ؟. وَقَدْ جَاءَتِ الْآثَارُ بِتَصَدِّي الشَّيَاطِينِ لَهُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ، رَغْبَةً فِي إِطْفَاءِ نُورِهِ، وَإِمَاتَةِ نَفْسِهِ، وَإِدْخَالِ شُغْلٍ عَلَيْهِ، إِذْ يَئِسُوا مِنْ إِغْوَائِهِ فَانْقَلَبُوا خَاسِرِينَ، كَتَعَرُّضِهِ لَهُ فِي صَلَاتِهِ، فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَسَرَهُ. فَفِي الصِّحَاحِ : قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ عَرَضَ لِي». قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : فِي صُورَةِ هِرٍّ، فَشَدَّ عَلَيَّ يَقْطَعُ عَلَيَّ الصَّلَاةَ فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ، فَذَعَتُّهُ. وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُوثِقَهُ إِلَى سَارِيَةٍ حَتَّى تُصْبِحُوا تَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا} [ص: 35] الْآيَةَ، فَرَدَّهُ اللَّهُ خَاسِئًا. وَفِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ جَاءَنِي بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي» وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ، وَذَكَرَ تَعَوُّذَهُ بِاللَّهِ مِنْهُ، وَلَعْنَهُ لَهُ، ثُمَّ أَرَدْتُ آخُذُهُ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَقَالَ: «لَأَصْبَحَ مُوثَقًا يَتَلَاعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ». وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِهِ فِي الْإِسْرَاءِ، وَطَلَبِ عِفْرِيتٍ لَهُ بِشُعْلَةِ نَارٍ، فَعَلَّمَهُ جِبْرِيلُ مَا يَتَعَوَّذُ بِهِ مِنْهُ، ذَكَرَهُ فِي الْمُوَطَّأِ، وَلَمَّا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَذَاهُ بِمُبَاشَرَتِهِ تَسَبَّبَ بِالتَّوَسُّطِ إِلَى عِدَاهُ، كَقَضِيَّتِهِ مَعَ قُرَيْشٍ فِي الِائْتِمَارِ بِقَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَصَوُّرِهِ فِي صُورَةِ الشَّيْخِ النَّجْدِيِّ. وَمَرَّةً أُخْرَى فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [الْأَنْفَالِ: 48] الْآيَةَ.. وَمَرَّةً يُنْذِرُ بِشَأْنِهِ عِنْدَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ. وَكُلُّ هَذَا فَقَدْ كَفَاهُ اللَّهُ أَمْرَهُ، وَعَصَمَهُ ضُرَّهُ، وَشَرَّهُ. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كُفِيَ مِنْ لَمْسِهِ، فَجَاءَ لِيَطْعَنَ بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِهِ حِينَ وُلِدَ، فَطَعَنَ فِي الْحِجَابِ». وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ لُدَّ فِي مَرَضِهِ، وَقِيلَ لَهُ: خَشِينَا أَنْ يَكُونَ بِكَ ذَاتُ الْجَنْبِ فَقَالَ: «إِنَّهَا مِنَ الشَّيْطَانِ وَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيُسَلِّطَهُ عَلَيَّ». فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى-: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الْأَعْرَافِ: 200] فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الْأَعْرَافِ: 199]، ثُمَّ قَالَ: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ، أَيْ يَسْتَخِفَّكَ غَضَبٌ يَحْمِلُكَ عَلَى تَرْكِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: النَّزْغُ هَاهُنَا الْفَسَادُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يُوسُفَ: 100]. وَقِيلَ: يَنْزَغَنَّكَ: يُغْرِيَنَّكَ، وَيُحَرِّكَنَّكَ. وَالنَّزْغُ: أَدْنَى الْوَسْوَسَةِ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَتَى تَحَرَّكَ عَلَيْهِ غَضَبٌ عَلَى عَدُوِّهِ، أَوْ رَامَ الشَّيْطَانُ مِنْ إِغْرَائِهِ بِهِ وَخَوَاطِرَ أَدْنَى وَسَاوِسِهِ، لَمْ يُجْعَلْ لَهُ سَبِيلٌ إِلَيْهِ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنْهُ، فَيُكْفَى أَمْرُهُ، وَيَكُونُ سَبَبَ تَمَامِ عِصْمَتِهِ، إِذْ لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِنَ التَّعَرُّضِ لَهُ، وَلَمْ يُجْعَلْ بِهِ قُدْرَةٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ قِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ هَذَا. وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَصَوَّرَ لَهُ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ الْمَلَكِ، وَيُلَبِّسَ عَلَيْهِ، لَا فِي أَوَّلِ الرِّسَالَةِ، وَلَا بَعْدَهَا. وَالِاعْتِمَادُ فِي ذَلِكَ دَلِيلُ الْمُعْجِزَةِ، بَلْ لَا يَشُكُّ النَّبِيُّ أَنَّ مَا يَأْتِيهِ مِنَ اللَّهِ الْمَلَكُ وَرَسُولُهُ حَقِيقَةً إِمَّا بِعِلْمٍ ضَرُورِيٍّ يَخْلُقُهُ اللَّهُ لَهُ، أَوْ بِبُرْهَانٍ يُظْهِرُهُ لَدَيْهِ، لِتَتِمَّ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا، لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الْحَجِّ: 52] الْآيَةَ.. فَاعْلَمْ أَنَّ لِلنَّاسِ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَقَاوِيلَ مِنْهَا السَّهْلُ، وَالْوَعْثُ وَالسَّمِينُ، وَالْغَثُّ وَأَوْلَى مَا يُقَالُ فِيهَا مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ التَّمَنِّيَ هَاهُنَا التِّلَاوَةُ، وَإِلْقَاءَ الشَّيْطَانِ فِيهَا إِشْغَالُهُ بِخَوَاطِرَ وَأَذْكَارٍ مِنَ الدُّنْيَا لِلَّيَالِي حَتَّى يُدْخِلَ عَلَيْهِ الْوَهْمَ وَالنِّسْيَانَ فِيمَا تَلَاهُ، أَوْ يُدْخِلَ غَيْرَ ذَلِكَ عَلَى أَفْهَامِ السَّامِعِينَ مِنَ التَّحْرِيفِ وَسُوءِ التَّأْوِيلِ مَا يُزِيلُهُ اللَّهُ، وَيَنْسَخُهُ، وَيَكْشِفُ لَبْسَهُ، وَيُحْكِمُ آيَاتِهِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ بِأَشْبَعَ مِنْ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ حَكَى السَّمَرْقَنْدِيُّ إِنْكَارَ قَوْلِ مَنْ قَالَ بِتَسْلِيطِ الشَّيْطَانِ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَغَلَبَتِهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَصِحُّ. وَقَدْ ذَكَرْنَا قِصَّةَ سُلَيْمَانَ مُبَيَّنَةً بَعْدَ هَذَا وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْجَسَدَ هُوَ الْوَلَدُ الَّذِي وُلِدَ لَهُ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيٌّ فِي قِصَّةِ أَيُّوبَ: وَقَوْلُهُ: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41] إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَأَوَّلَ أَنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ الَّذِي أَمْرَضَهُ، وَأَلْقَى الضُّرَّ فِي بَدَنِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِفِعْلِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ، لِيَبْتَلِيَهُمْ وَيُثِيبَهُمْ. قَالَ مَكِّيٌّ : وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي أَصَابَهُ بِهِ الشَّيْطَانُ مَا وَسْوَسَ بِهِ إِلَى أَهْلِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ يُوشَعَ: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} [الْكَهْفِ: 63]. وَقَوْلِهِ عَنْ يُوسُفَ: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [يُوسُفَ: 42]. وَقَوْلِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ نَامَ عَلَى الصَّلَاةِ يَوْمَ الْوَادِي: «إِنَّ هَذَا وَادٍ بِهِ شَيْطَانٌ». وَقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي وَكْزَتِهِ: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [الْقَصَصِ: 15]. فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ قَدْ يَرِدُ فِي هَذَا عَلَى مَوْرِدِ مُسْتَمِرِّ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي وَصْفِهِمْ كُلَّ قَبِيحٍ، مِنْ شَخْصٍ أَوْ فِعْلٍ بِالشَّيْطَانِ أَوْ فِعْلِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصَّافَّاتِ: 65]. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ». وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَ يُوشَعَ لَا يَلْزَمُنَا الْجَوَابُ عَنْهُ، إِذْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ نُبُوَّةٌ مَعَ مُوسَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} [الْكَهْفِ: 60]. وَالْمَرْوِيُّ أَنَّهُ إِنَّمَا بَعْدَ مَوْتِ مُوسَى، وَقِيلَ: قُبَيْلَ مَوْتِهِ. وَقَوْلُ مُوسَى كَانَ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ بِدَلِيلِ الْقُرْآنِ. وَقِصَّةُ يُوسُفَ قَدْ ذُكِرَ أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ. وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ} [يُوسُفَ: 42] قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الَّذِي أَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ أَحَدُ صَاحِبَيِ السِّجْنِ، وَرَبُّهُ الْمَلِكُ، أَيْ أَنْسَاهُ أَنْ يَذْكُرَ لِلْمَلِكِ شَأْنَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا مِنْ فِعْلِ الشَّيْطَانِ لَيْسَ فِيهِ تَسَلُّطٌ عَلَى يُوسُفَ، وَيُوشَعَ بِوَسَاوِسَ، وَنَزْغٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بِشَغْلِ خَوَاطِرِهِمَا بِأُمُورٍ أُخَرَ، وَتَذْكِيرِهِمَا مِنْ أُمُورِهِمَا مَا يُنْسِيهِمَا مَا نَسِيَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا وَادٍ بِهِ شَيْطَانٌ». فَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ تَسَلُّطِهِ عَلَيْهِ، وَلَا وَسْوَسَتِهِ لَهُ، بَلْ إِنْ كَانَ بِمُقْتَضَى ظَاهِرِهِ فَقَدْ بَيَّنَ أَمْرَ ذَلِكَ الشَّيْطَانِ بِقَوْلِهِ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ أَتَى بِلَالًا، فَلَمْ يَزَلْ يُهَدِّئُهُ كَمَا يُهَدَّأُ الصَّبِيُّ حَتَّى نَامَ». فَاعْلَمْ أَنَّ تَسَلُّطَ الشَّيْطَانِ فِي ذَلِكَ الْوَادِي إِنَّمَا كَانَ عَلَى بِلَالٍ الْمُوَكَّلِ بِكَلَاءَةِ الْفَجْرِ. هَذَا إِنْ جَعَلْنَا قَوْلَهُ: «إِنَّ هَذَا وَادٍ بِهِ شَيْطَانٌ» تَنْبِيهًا عَلَى سَبَبِ النَّوْمِ عَنِ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا إِنْ جَعَلْنَاهُ تَنْبِيهًا عَلَى سَبَبِ الرَّحِيلِ عَنِ الْوَادِي، وَعِلَّةً لِتَرْكِ الصَّلَاةِ بِهِ، وَهُوَ دَلِيلُ مَسَاقِ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فَلَا اعْتِرَاضَ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ، لِبَيَانِهِ وَارْتِفَاعِ إِشْكَالِهِ.
وَأَمَّا أَقْوَالُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَتِ الدَّلَائِلُ الْوَاضِحَةُ بِصِحَّةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى صِدْقِهِ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ الْبَلَاغَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا بِخِلَافِ مَا هُوَ بِهِ، لَا قَصْدًا، وَلَا عَمْدًا، وَلَا سَهْوًا، وَلَا غَلَطًا. أَمَّا تَعَمُّدُ الْخُلْفِ فِي ذَلِكَ فَمُنْتَفٍ، بِدَلِيلِ الْمُعْجِزَةِ الْقَائِمَةِ مَقَامَ قَوْلِ اللَّهِ صَدَقَ فِيمَا قَالَ اتِّفَاقًا، وَبِإِطْبَاقِ أَهْلِ الْمِلَّةِ إِجْمَاعًا. وَأَمَّا وُقُوعُهُ عَلَى جِهَةِ الْغَلَطِ فِي ذَلِكَ فَبِهَذِهِ السَّبِيلِ عِنْدَ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَائِنِيِّ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ، وَمِنْ جِهَةِ الْإِجْمَاعِ فَقَطْ وَوُرُودِ الشَّرْعِ بِانْتِقَاءِ ذَلِكَ، وَعِصْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مِنْ مُقْتَضَى الْمُعْجِزَةِ نَفْسِهَا عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَمَنْ وَافَقَهُ لِاخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي مُقْتَضَى دَلِيلِ الْمُعْجِزَةِ لَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهِ، فَنَخْرُجُ عَنْ غَرَضِ الْكِتَابِ، فَلْنَعْتَمِدْ عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ خُلْفٌ فِي الْقَوْلِ فِي إِبْلَاغِ الشَّرِيعَةِ، وَالْإِعْلَامِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ رَبِّهِ، وَمَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ مِنْ وَحْيِهِ، لَا عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ، وَلَا عَلَى غَيْرِ عَمْدٍ، وَلَا فِي حَالَيِ الرِّضَى، وَالسَّخَطِ، وَالصِّحَّةِ، وَالْمَرَضِ. وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكْتُبُ كُلَّ مَا أَسْمَعُ مِنْكَ؟ قَالَ: [نَعَمْ]. قُلْتُ: فِي الرِّضَى وَالْغَضَبِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، فَإِنِّي لَا أَقُولُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَّا حَقًّا». وَلْنَزِدْ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ دَلِيلِ الْمُعْجِزَةِ عَلَيْهِ بَيَانًا، فَنَقُولُ: إِذَا قَامَتِ الْمُعْجِزَةُ عَلَى صِدْقِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا، وَلَا يُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ إِلَّا صِدْقًا، وَأَنَّ الْمُعْجِزَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ قَوْلِ اللَّهِ لَهُ: صَدَقْتَ فِيمَا تَذْكُرُهُ عَنِّي، وَهُوَ يَقُولُ: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكُمْ لِأُبَلِّغَكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ، أُبَيِّنُ لَكُمْ مَا نُزِّلَ عَلَيْكُمْ، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النَّجْمِ: 3- 4]. وَقَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الْحَشْرِ: 7]، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ خَبَرٌ بِخِلَافِ مُخْبَرِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ. فَلَوْ جَوَّزْنَا عَلَيْهِ الْغَلَطَ، وَالسَّهْوَ لَمَا تَمَيَّزَ لَنَا مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا اخْتَلَطَ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، فَالْمُعْجِزَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَصْدِيقِهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ خُصُوصٍ فَتَنْزِيهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَاجِبٌ بُرْهَانًا، وَإِجْمَاعًا كَمَا قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ .
وَقَدْ تَوَجَّهَتْ هَاهُنَا لِبَعْضِ الطَّاعِنِينَ سُؤَالَاتٌ، مِنْهَا: مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَرَأَ سُورَةَ وَالنَّجْمِ وَقَالَ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النَّجْمِ: 19- 20] قَالَ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهَا لِتُرْتَجَى، وَيُرْوَى: تُرْتَضَى. وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّ شَفَاعَتَهَا لَتُرْتَجَى، وَإِنَّهَا لَمَعَ الْغَرَانِيقِ الْعُلَى. وَفِي أُخْرَى: وَالْغَرَانِقَةُ الْعُلَى، تِلْكَ لِلشَّفَاعَةِ تُرْتَجَى. فَلَمَّا خَتَمَ السُّورَةَ سَجَدَ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَالْكُفَّارُ لَمَّا سَمِعُوهُ أَثْنَى عَلَى آلِهَتِهِمْ. وَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَاهَا عَلَى لِسَانِهِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَمَنَّى أَنْ لَوْ نَزَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ يُقَارِبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَنْ لَا يَنْزِلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ يُنَفِّرُهُمْ عَنْهُ، وَذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ، وَأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَاءَ فَعَرَضَ عَلَيْهِ السُّورَةَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْكَلِمَتَيْنِ قَالَ لَهُ: مَا جِئْتُكَ بِهَاتَيْنِ. فَحَزِنَ لِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَسْلِيَةً لَهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الْحَجِّ: 52] الْآيَةَ.. وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الْإِسْرَاءِ: 73]. فَاعْلَمْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ أَنَّ لَنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى مُشْكَلِ هَذَا الْحَدِيثَ مَأْخَذَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي تَوْهِينِ أَصْلِهِ، وَالثَّانِي عَلَى تَسْلِيمِهِ. أَمَّا الْمَأْخَذُ الْأَوَّلُ فَيَكْفِيكَ أَنَّ هَذَا حَدِيثٌ لَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الصِّحَّةِ، وَلَا رَوَاهُ ثِقَةٌ بِسَنَدٍ سَلِيمٍ مُتَّصِلٍ، وَإِنَّمَا أُولِعَ بِهِ وَبِمِثْلِهِ الْمُفَسِّرُونَ، وَالْمُؤَرِّخُونَ الْمُولَعُونَ بِكُلِّ غَرِيبٍ، الْمُتَلَقِّفُونَ مِنَ الصُّحُفِ كُلَّ صَحِيحٍ وَسَقِيمٍ. وَصَدَقَ الْقَاضِي بَكْرُ بْنُ الْعَلَاءِ الْمَالِكِيُّ حَيْثُ قَالَ: لَقَدْ بُلِيَ النَّاسُ بِبَعْضِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَالتَّفْسِيرِ، وَتَعَلَّقَ بِذَلِكَ الْمُلْحِدُونَ مَعَ ضَعْفِ نَقَلَتِهِ، وَاضْطِرَابِ رِوَايَاتِهِ، وَانْقِطَاعِ إِسْنَادِهِ، وَاخْتِلَافِ كَلِمَاتِهِ، فَقَائِلٌ يَقُولُ: إِنَّهُ فِي الصَّلَاةِ، وَآخَرُ يَقُولُ: قَالَهَا فِي نَادِي قَوْمِهِ حِينَ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ، وَآخَرُ يَقُولُ: قَالَهَا، وَقَدْ أَصَابَتْهُ سِنَةٌ، وَآخَرُ يَقُولُ: بَلْ حَدَّثَ نَفْسَهُ فَسَهَا، وَآخَرُ يَقُولُ: إِنَّ الشَّيْطَانَ قَالَهَا عَلَى لِسَانِهِ وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَرَضَهَا عَلَى جِبْرِيلَ قَالَ: مَا هَكَذَا أَقْرَأْتُكَ، وَآخَرُ يَقُولُ: بَلْ أَعْلَمَهُمُ الشَّيْطَانُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَهَا، فَلَمَّا بَلَغَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ قَالَ: «وَاللَّهِ مَا هَكَذَا نَزَلَتْ» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنِ اخْتِلَافِ الرُّوَاةِ. وَمَنْ حُكِيَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ عَنْهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَالتَّابِعِينَ لَمْ يُسْنِدْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَا رَفَعَهَا إِلَى صَاحِبٍ، وَأَكْثَرُ الطُّرُقِ عَنْهُمْ فِيهَا ضَعِيفَةٌ وَاهِيَةٌ، وَالْمَرْفُوعُ فِيهِ حَدِيثُ شُعْبَةَ: عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِيمَا أَحْسَبُ: الشَّكُّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِمَكَّةَ... وَذَكَرَ الْقِصَّةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ : هَذَا الْحَدِيثُ لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ يَجُوزُ ذِكْرُهُ إِلَّا هَذَا، وَلَمْ يُسْنِدْهُ عَنْ شُعْبَةَ إِلَّا أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ، وَغَيْرُهُ يُرْسِلُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدْ بَيَّنَ لَكَ أَبُو بَكْرٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ مِنْ طَرِيقٍ يَجُوزُ ذِكْرُهُ سِوَى هَذَا. وَفِيهِ مِنَ الضَّعْفِ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ، مَعَ وُقُوعِ الشَّكِّ فِيهِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، الَّذِي لَا يُوثَقُ بِهِ، وَلَا حَقِيقَةَ مَعَهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْكَلْبِيِّ فَمِمَّا لَا تَجُوزُ الرَّاوِيَةُ عَنْهُ، وَلَا ذِكْرُهُ لِقُوَّةِ ضَعْفِهِ وَكَذِبِهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَزَّارُ:- رَحِمَهُ اللَّهُ-. وَالَّذِي مِنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ وَالنَّجْمِ، وَهُوَ بِمَكَّةَ، فَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَالْمُشْرِكُونَ، وَالْجِنُّ، وَالْإِنْسُ. هَذَا تَوْهِينُهُ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ فَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَقَدْ قَامَتِ الْحُجَّةُ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى عِصْمَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَزَاهَتِهِ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الرَّذِيلَةِ، إِمَّا مِنْ تَمَنِّيهِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا مِنْ مَدْحِ آلِهَةٍ غَيْرِ اللَّهِ، وَهُوَ كُفْرٌ، أَوْ أَنْ يَتَسَوَّرَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ وَيُشَبِّهَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ حَتَّى يَجْعَلَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَيَعْتَقِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مِنَ الْقُرْآنِ مَا لَيْسَ مِنْهُ حَتَّى يُنَبِّهَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ يَقُولُ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ عَمْدًا، وَذَلِكَ كُفْرٌ، أَوْ سَهْوًا، وَهُوَ مَعْصُومٌ مِنْ هَذَا كُلِّهِ. وَقَدْ قَرَّرْنَا بِالْبَرَاهِينِ وَالْإِجْمَاعِ عِصْمَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَرَيَانِ الْكُفْرِ عَلَى قَلْبِهِ أَوْ لِسَانِهِ لَا عَمْدًا، وَلَا سَهْوًا، أَوْ أَنْ يَتَشَبَّهَ عَلَيْهِ مَا يُلْقِيهِ الْمَلَكُ بِمَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ أَوْ يَكُونَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، أَوْ أَنْ يَتَقَوَّلَ عَلَى اللَّهِ، لَا عَمْدًا، وَلَا سَهْوًا، مَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} [الْحَاقَّةِ: 44] الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الْإِسْرَاءِ: 75] الْآيَةَ، وَوَجْهٌ ثَانٍ وَهُوَ اسْتِحَالَةُ هَذِهِ الْقِصَّةِ نَظَرًا، وَعُرْفًا، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَوْ كَانَ كَمَا رُوِيَ لَكَانَ بَعِيدَ الِالْتِئَامِ، لِكَوْنِهِ مُتَنَاقِضَ الْأَقْسَامِ، مُمْتَزِجَ الْمَدْحِ بِالذَّمِّ، مُتَخَاذِلَ التَّأْلِيفِ وَالنَّظْمِ. وَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا مَنْ بِحَضْرَتِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَصَنَادِيدِ الْمُشْرِكِينَ مِمَّنْ يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَهَذَا لَا يَخْفَى عَلَى أَدْنَى مُتَأَمِّلٍ، فَكَيْفَ بِمَنْ رَجَحَ حِلْمُهُ، وَاتَّسَعَ فِي بَابِ الْبَيَانِ وَمَعْرِفَةِ فَصِيحِ الْكَلَامِ عِلْمُهُ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ عَادَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَمُعَانِدِي الْمُشْرِكِينَ، وَضَعَفَةِ الْقُلُوبِ، وَالْجَهَلَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نُفُورُهُمْ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَتَخْلِيطُ الْعَدُوِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَقَلِّ فِتْنَةٍ، وَتَعْييرُهُمُ الْمُسْلِمِينَ، وَالشَّمَاتَةُ بِهِمُ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ، وَارْتِدَادُ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرْضٌ مِمَّنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ لِأَدْنَى شُبْهَةٍ، وَلَمْ يَحْكِ أَحَدٌ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ شَيْئًا سِوَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ الضَّعِيفَةِ الْأَصْلِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَوَجَدَتْ قُرَيْشٌ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ الصَّوْلَةَ، وَلَأَقَامَتْ بِهَا الْيَهُودُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ، كَمَا فَعَلُوا مُكَابَرَةً فِي قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ حَتَّى كَانَتْ فِي ذَلِكَ لِبَعْضِ الضُّعَفَاءِ رِدَّةٌ، وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ الْقَضِيَّةِ، وَلَا فِتْنَةَ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْبَلِيَّةِ لَوْ وُجِدَتْ، وَلَا تَشْغِيبَ لِلْمُعَادِي حِينَئِذٍ أَشَدُّ مِنْ هَذِهِ الْحَادِثَةِ لَوْ أَمْكَنَتْ، فَمَا رُوِيَ عَنْ مُعَانِدٍ فِيهَا كَلِمَةٌ، وَلَا عَنْ مُسْلِمٍ بِسَبَبِهَا بِنْتُ شَفَةٍ، فَدَلَّ عَلَى بُطْلِهَا، وَاجْتِثَاثِ أَصْلِهَا. وَلَا شَكَّ فِي إِدْخَالِ بَعْضِ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ أَوِ الْجِنِّ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى بَعْضِ مُغَفَّلِي الْمُحَدِّثِينَ، لِيُلَبِّسَ بِهِ عَلَى ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَوَجْهٌ رَابِعٌ: ذَكَرَ الرُّوَاةُ لِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَنَّ فِيهَا نَزَلَتْ: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الْإِسْرَاءِ: 73] الْآيَتَيْنِ. وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ تَرُدَّانِ الْخَبَرَ الَّذِي رَوَوْهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّهُمْ كَادُوا يَفْتِنُونَهُ حَتَّى يَفْتَرِيَ، وَأَنَّهُ لَوْلَا أَنْ ثَبَّتَهُ لَكَادَ يَرْكَنُ إِلَيْهِمْ. فَمَضْمُونُ هَذَا وَمَفْهُومُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَصَمَهُ مِنْ أَنْ يَفْتَرِيَ، وَثَبَّتَهُ حَتَّى لَمْ يَرْكَنْ إِلَيْهِمْ قَلِيلًا، فَكَيْفَ كَثِيرًا! وَهُمْ يَرْوُونَ أَخْبَارَهُمُ الْوَاهِيَةَ أَنَّهُ زَادَ عَلَى الرُّكُونِ، وَالِافْتِرَاءِ بِمَدْحِ آلِهَتِهِمْ، وَأَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: افْتَرَيْتُ عَلَى اللَّهِ، وَقُلْتُ مَا لَمْ يَقُلْ، وَهَذَا ضِدُّ مَفْهُومِ الْآيَةِ، وَهِيَ تُضْعِفُ الْحَدِيثَ لَوْ صَحَّ، فَكَيْفَ، وَلَا صِحَّةَ لَهُ؟. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} [النِّسَاءِ: 113]. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ كَادَ فَهُوَ مَا لَا يَكُونُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} [النُّورِ: 43]، وَلَمْ يَذْهَبْ. وَ{أَكَادُ أُخْفِيهَا} وَلَمْ يَفْعَلْ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ الْقَاضِي : وَلَقَدْ طَالَبَهُ قُرَيْشٌ وَثَقِيفٌ إِذْ مَرَّ بِآلِهَتِهِمْ أَنْ يُقْبِلَ بِوَجْهِهِ إِلَيْهَا، وَوَعَدُوهُ الْإِيمَانَ بِهِ إِنْ فَعَلَ، فَمَا فَعَلَ، وَلَا كَانَ لِيَفْعَلَ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : مَا قَارَبَ الرَّسُولُ، وَلَا رَكَنَ. وَقَدْ ذُكِرَتْ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ تَفَاسِيرُ أُخَرُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ نَصِّ اللَّهِ عَلَى عِصْمَةِ رَسُولِهِ تَرُدُّ سِفْسَافَهَا، فَلَمْ يَبْقَ فِي الْآيَةِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى امْتَنَّ عَلَى رَسُولِهِ بِعِصْمَتِهِ، وَتَثْبِيتِهِ مِمَّا كَادَهُ بِهِ الْكُفَّارُ، وَرَامُوا مِنْ فِتْنَتِهِ، وَمُرَادُنَا مِنْ ذَلِكَ تَنْزِيهُهُ، وَعِصْمَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مَفْهُومُ الْآيَةِ. وَأَمَّا الْمَأْخَذُ الثَّانِي: فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَسْلِيمِ الْحَدِيثِ لَوْ صَحَّ، وَقَدْ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ صِحَّتِهِ، وَلَكِنْ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدْ أَجَابَ عَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ بِأَجْوِبَةٍ، مِنْهَا الْغَثُّ وَالسَّمِينُ، فَمِنْهَا مَا رَوَى قَتَادَةُ، وَمُقَاتِلٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابَتْهُ سِنَةٌ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ هَذِهِ السُّورَةَ فَجَرَى هَذَا الْكَلَامُ عَلَى لِسَانِهِ بِحُكْمِ النَّوْمِ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ، إِذْ لَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ فِي حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِهِ، وَلَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ وَلَا يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ فِي نَوْمٍ، وَلَا يَقَظَةٍ لِعِصْمَتِهِ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ جَمِيعِ الْعَمْدِ، وَالسَّهْوِ. وَفِي قَوْلِ الْكَلْبِيِّ : إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَ نَفْسَهُ، فَقَالَ ذَلِكَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: وَسَهَا، فَلَمَّا أُخْبِرَ بِذَلِكَ قَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَكُلُّ هَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا سَهْوًا وَلَا قَصْدًا، وَلَا يَتَقَوَّلَهُ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ. وَقِيلَ: لَعَلَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي أَثْنَاءِ تِلَاوَتِهِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّقْرِيرِ، وَالتَّوْبِيخِ لِلْكُفَّارِ، كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {هَذَا رَبِّي} [الْأَنْعَامِ: 76] عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ. وَكَقَوْلِهِ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الْأَنْبِيَاءِ: 63] بَعْدَ السَّكْتِ، وَبَيَانِ الْفَضْلِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى تِلَاوَتِهِ. وَهَذَا مُمْكِنٌ مَعَ بَيَانِ الْفَضْلِ، وَقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَتْلُوِّ، وَهُوَ أَحَدُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ. وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي الصَّلَاةِ، فَقَدْ كَانَ الْكَلَامُ قَبْلُ فِيهَا غَيْرَ مَمْنُوعٍ. وَالَّذِي يَظْهَرُ، وَيَتَرَجَّحُ فِي تَأْوِيلِهِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى تَسْلِيمِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَمَا أَمَرَهُ رَبُّهُ يُرَتِّلُ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا، وَيُفَصِّلُ الْآيَ تَفْصِيلًا فِي قِرَاءَتِهِ، كَمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْهُ، فَيُمْكِنُ تَرَصُّدُ الشَّيْطَانِ لِتِلْكَ السَّكَتَاتِ، وَدَسُّهُ فِيهَا مَا اخْتَلَقَهُ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ مُحَاكِيًا نَغْمَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ مَنْ دَنَا إِلَيْهِ مِنَ الْكُفَّارِ، فَظَنُّوهَا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَشَاعُوهَا، وَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ بِحِفْظِ السُّورَةِ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى مَا أَنْزَلَهَا اللَّهُ، وَتَحَقُّقِهِمْ مِنْ حَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَمِّ الْأَوْثَانِ وَعَيْبِهَا عَلَى مَا عُرِفَ مِنْهُ. وَقَدْ حَكَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي مَغَازِيهِ نَحْوَ هَذَا، وَقَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَسْمَعُوهَا، وَإِنَّمَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ ذَلِكَ فِي أَسْمَاعِ الْمُشْرِكِينَ، وَقُلُوبِهِمْ، وَيَكُونُ مَا رُوِيَ مِنْ حُزْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَذِهِ الْإِشَاعَةِ، وَالشُّبْهَةِ، وَسَبَبِ هَذِهِ الْفِتْنَةِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [الْحَجِّ: 52] الْآيَةَ. فَمَعْنَى تَمَنَّى: تَلَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [الْبَقَرَةِ: 78]، أَيْ تِلَاوَةً. وَقَوْلُهُ: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الْحَجِّ: 52]، أَيْ يُذْهِبُهُ، وَيُزِيلُ اللَّبْسَ بِهِ، وَيُحْكِمُ آيَاتِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ مَا يَقَعُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ السَّهْوِ إِذَا قَرَأَ فَيَنْتَبِهُ لِذَلِكَ، وَيَرْجِعُ عَنْهُ. وَهَذَا نَحْوُ قَوْلِ الْكَلْبِيِّ فِي الْآيَةِ: أَنَّهُ حَدَّثَ نَفْسَهُ، وَقَالَ: إِذَا تَمَنَّى، أَيْ حَدَّثَ نَفْسَهُ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ نَحْوُهُ. وَهَذَا السَّهْوُ فِي الْقِرَاءَةِ إِنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا لَيْسَ طَرِيقُهُ تَغْيِيرَ الْمَعَانِي، وَتَبْدِيلَ الْأَلْفَاظِ، وَزِيَادَةَ مَا لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ، بَلِ السَّهْوُ عَنْ إِسْقَاطِ آيَةٍ مِنْهُ أَوْ كَلِمَةٍ، وَلَكِنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى هَذَا السَّهْوِ، بَلْ يُنَبَّهُ عَلَيْهِ، وَيُذَكَّرُ بِهِ لِلْحِينِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي حُكْمِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنَ السَّهْوِ، وَمَا لَا يَجُوزُ. وَمِمَّا يَظْهَرُ فِي تَأْوِيلِهِ أَيْضًا أَنَّ مُجَاهِدًا رَوَى هَذِهِ الْقِصَّةَ: وَالْغَرَانِقَةُ الْعُلَى، فَإِنْ سَلَّمْنَا الْقِصَّةَ قُلْنَا: لَا يَبْعُدُ أَنَّ هَذَا كَانَ قُرْآنًا، وَالْمُرَادُ بِالْغَرَانِقَةِ الْعُلَى، وَأَنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى: الْمَلَائِكَةُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَبِهَذَا فَسَرَّ الْكَلْبِيُّ الْغَرَانِقَةَ أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ الْأَوْثَانَ وَالْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللَّهِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} [النَّجْمِ: 21] فَأَنْكَرَ اللَّهُ كُلَّ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ، وَرَجَاءُ الشَّفَاعَةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ صَحِيحٌ، فَلَمَّا تَأَوَّلَهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الذِّكْرِ آلِهَتَهُمْ، وَلَبَّسَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ ذَلِكَ، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَلْقَاهُ إِلَيْهِمْ نَسَخَ اللَّهُ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ، وَأَحْكَمَ آيَاتِهِ، وَرَفَعَ تِلَاوَةَ تِلْكَ اللَّفْظَتَيْنِ اللَّتَيْنِ، وَجَدَ الشَّيْطَانُ بِهِمَا سَبِيلًا لِلْإِلْبَاسِ، كَمَا نُسِخَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ، وَرُفِعَتْ تِلَاوَتُهُ، وَكَانَ فِي إِنْزَالِ اللَّهِ تَعَالَى لِذَلِكَ حِكْمَةٌ، وَفِي نَسْخِهِ حِكْمَةٌ، لِيُضِلَّ بِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ، وَ{لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينِ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الْحَجِّ: 53، 54] الْآيَةَ.. وَقِيلَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ، وَبَلَغَ ذِكْرَ اللَّاتِ، وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى خَافَ الْكُفَّارُ أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَمِّهَا فَسَبَقُوا إِلَى مَدْحِهَا بِتِلْكَ الْكَلِمَتَيْنِ لِيُخَلِّطُوا فِي تِلَاوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُشَنِّعُوا عَلَيْهِ عَلَى عَادَتِهِمْ، وَقَوْلِهِمْ: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فُصِّلَتْ: 26] وَنُسِبَ هَذَا الْفِعْلُ إِلَى الشَّيْطَانِ لِحَمْلِهِ لَهُمْ عَلَيْهِ وَأَشَاعُوا ذَلِكَ وَأَذَاعُوهُ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ فَحَزِنَ لِذَلِكَ مِنْ كَذِبِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِ فَسَلَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} [الْحَجِّ: 52] الْآيَةَ، وَبَيَّنَ لِلنَّاسِ الْحَقَّ مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْبَاطِلِ، وَحَفِظَ الْقُرْآنَ وَأَحْكَمَ آيَاتِهِ، وَدَفَعَ مَا لَبَّسَ بِهِ الْعَدُوُّ، كَمَا ضَمِنَهُ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الْحِجْرِ: 9]. وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ مِنْ قِصَّةِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ وَعَدَ قَوْمَهُ الْعَذََابَ عَنْ رَبِّهِ، فَلَمَّا تَابُوا كُشِفَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ، فَقَالَ: لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ كَذَّابًا أَبَدًا، فَذَهَبَ مُغَاضِبًا. فَاعْلَمْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ أَنْ لَيْسَ فِي خَبَرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ مُهْلِكُكُمْ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ دَعَا عَلَيْهِمْ بِالْهَلَاكِ، وَالدُّعَاءُ لَيْسَ بِخَبَرٍ يُطْلَبُ صِدْقُهُ مِنْ كَذِبِهِ، لَكِنَّهُ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ الْعَذَابَ مُصَبِّحُكُمْ وَقْتَ كَذَا وَكَذَا، فَكَانَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ، ثُمَّ رَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمُ الْعَذَابَ، وَتَدَارَكَهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ} [يُونُسَ: 98] الْآيَةَ.. وَرُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّهُمْ رَأَوْا دَلَائِلَ الْعَذَابِ، وَمَخَايِلَهُ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : غَشَّاهُمُ الْعَذَابُ كَمَا يُغَشِّي الثَّوْبُ الْقَبْرَ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا مَعْنَى مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي سَرْحٍ كَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ارْتَدَّ مُشْرِكًا، وَصَارَ إِلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي كُنْتُ أُصَرِّفُ مُحَمَّدًا حَيْثُ أُرِيدُ، كَانَ يُمْلِي عَلَيَّ [عَزِيزٌ حَكِيمٌ] فَأَقُولُ أَوْ [عَلِيمٌ حَكِيمٌ]؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، كُلٌّ صَوَابٌ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: فَيَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اكْتُبْ كَذَا» فَيَقُولُ: أَكْتُبُ كَذَا؟ فَيَقُولُ: «اكْتُبْ كَيْفَ شِئْتَ» وَيَقُولُ: اكْتُبْ عَلِيمًا حَكِيمًا، فَيَقُولُ أَكْتُبُ: سَمِيعًا بَصِيرًا، فَيَقُولُ لَهُ: اكْتُبْ كَيْفَ شِئْتَ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ نَصْرَانِيًّا كَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ، وَكَانَ يَقُولُ: مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلَّا مَا كَتَبْتُ لَهُ. فَاعْلَمْ ثَبَّتَنَا اللَّهُ، وَإِيَّاكَ عَلَى الْحَقِّ، وَلَا جَعَلَ لِلشَّيْطَانِ وَتَلْبِيسَهُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ إِلَيْنَا سَبِيلًا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْحِكَايَةِ أَوَّلًا لَا تُوقِعُ فِي قَلْبِ مُؤْمِنٍ رَيْبًا، إِذْ هِيَ حِكَايَةٌ عَمَّنِ ارْتَدَّ، وَكَفَرَ بِاللَّهِ، وَنَحْنُ لَا نَقْبَلُ خَبَرَ الْمُسْلِمِ الْمُتَّهَمِ، فَكَيْفَ بِكَافِرٍ افْتَرَى هُوَ وَمِثْلُهُ عَلَى اللَّهِ، وَرُسُلِهِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا!. وَالْعَجَبُ لِسَلِيمِ الْعَقْلِ يَشْغَلُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ سِرَّهُ، وَقَدْ صَدَرَتْ مِنْ عَدُوٍّ كَافِرٍ مُبْغِضٍ لِلدِّينِ، مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ، وَرَسُولِهِ، وَلَمْ تَرِدْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا ذَكَرَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ شَاهَدَ مَا قَالَهُ، وَافْتَرَاهُ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ، {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النَّحْلِ: 105] الْآيَةَ.. [، وَمَا وَقَعَ مِنْ ذِكْرِهَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَظَاهِرِ حِكَايَتِهَا، فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شَاهَدَهَا، وَلَعَلَّهُ حَكَى مَا سَمِعَ. وَقَدْ عَلَّلَ الْبَزَّارُ حَدِيثَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ: رَوَاهُ ثَابِتٌ عَنْهُ، وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: وَأَظُنُّ إِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ ثَابِتٍ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ ،- وَفَّقَهُ اللَّهُ-: وَلِهَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لَمْ يُخَرِّجْ أَهْلُ الصَّحِيحِ حَدِيثَ ثَابِتٍ، وَلَا حُمَيْدٍ. وَ الصَّحِيحُ حَدِيثُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رَفِيعٍ عَنْ أَنَسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الَّذِي خَرَّجَهُ أَهْلُ الصِّحَّةِ، وَذَكَرْنَاهُ، وَلَيْسَ فِيهِ عَنْ أَنَسٍ قَوْلُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ إِلَّا مِنْ حِكَايَتِهِ عَنِ الْمُرْتَدِّ النَّصْرَانِيِّ، وَلَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَمَا كَانَ فِيهَا قَدْحٌ، وَلَا تَوْهِيمٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَلَا جَوَازٌ لِلنِّسْيَانِ، وَالْغَلَطِ عَلَيْهِ، وَالتَّحْرِيفِ فِيمَا بَلَّغَهُ، وَلَا طَعْنٌ فِي نَظْمِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ لَوْ صَحَّ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّ الْكَاتِبَ قَالَ لَهُ: عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وَكَتَبَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَذَلِكَ هُوَ«فَسَبَقَهُ لِسَانُهُ أَوْ قَلَمُهُ لِكَلِمَةٍ أَوْ كَلِمَتَيْنِ مِمَّا نَزَلَ عَلَى الرَّسُولِ قَبْلَ إِظْهَارِ الرَّسُولِ لَهَا، إِذْ كَانَ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا أَمْلَاهُ الرَّسُولُ يَدُلُّ عَلَيْهَا، وَيَقْتَضِي وُقُوعَهَا بِقُوَّةِ قُدْرَةِ الْكَاتِبِ عَلَى الْكَلَامِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِهِ، وَجَوْدَةِ حِسِّهِ، وَفِطْنَتِهِ، كَمَا يَتَّفِقُ ذَلِكَ لِلْعَارِفِ إِذَا سَمِعَ الْبَيْتَ أَنْ يَسْبِقَ إِلَى قَافِيَّتِهِ، أَوْ مُبْتَدَأَ الْكَلَامِ الْحَسَنِ إِلَى مَا يَتِمُّ بِهِ، وَلَا يَتَّفِقُ فِي جُمْلَةِ الْكَلَامِ، كَمَا لَا يَتَّفِقُ ذَلِكَ فِي آيَةٍ، وَلَا سُورَةٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ صَوَابٍ إِنْ صَحَّ فَقَدْ يَكُونُ هَذَا فِيمَا كَانَ فِيهِ مِنْ مَقَاطِعِ الْآيِ وَجْهَانِ، وَقِرَاءَتَانِ أُنْزِلَتَا جَمِيعًا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمْلَى إِحْدَاهَا، وَتَوَصَّلَ الْكَاتِبُ بِفِطْنَتِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِمُقْتَضَى الْكَلَامِ إِلَى الْأُخْرَى، فَذَكَرَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، فَصَوَّبَهَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَحْكَمَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحْكَمَ، وَنَسَخَ مَا نَسَخَ كَمَا قَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ مَقَاطِعِ الْآيِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الْمَائِدَةِ: 118]. وَهَذِهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ قَرَأَ جَمَاعَةٌ: [فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]. وَلَيْسَتْ مِنَ الْمُصْحَفِ. وَكَذَلِكَ كَلِمَاتٌ جَاءَتْ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي غَيْرِ الْمَقَاطِعِ، قَرَأَ بِهِمَا جَمِيعًا الْجُمْهُورُ، وَثَبَتَتَا فِي الْمُصْحَفِ، مِثْلَ: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} [الْبَقَرَةِ: 259]، وَنُنْشِزُهَا، وَيَقْضِي الْحَقَّ، وَيَقُصُّ الْحَقَّ. وَكُلُّ هَذَا لَا يُوجِبُ رَيْبًا، وَلَا يُسَبِّبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَطًا، وَلَا وَهْمًا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا يَكْتُبُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّاسِ غَيْرَ الْقُرْآنِ فَيَصِفُ اللَّهُ، وَيُسَمِّيهِ فِي ذَلِكَ كَيْفَ يَشَاءُ.
هَذَا الْقَوْلُ فِيمَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ، وَأَمَّا مَا لَيْسَ سَبِيلُهُ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَا مُسْتَنَدَ لَهَا إِلَى الْأَحْكَامِ، وَلَا أَخْبَارِ الْمَعَادِ، وَلَا تُضَافُ إِلَى وَحْيٍ، بَلْ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، وَأَحْوَالِ نَفْسِهِ فَالَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ تَنْزِيهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقَعَ خَبَرُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ مُخْبَرِهِ، لَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا وَلَا غَلَطًا، وَأَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنْ ذَلِكَ فِي حَالِ رِضَاهُ، وَفِي سَخَطِهِ، وَجَدِّهِ، وَمَزْحِهِ، وَصِحَّتِهِ، وَمَرَضِهِ. وَدَلِيلُ ذَلِكَ اتِّفَاقُ السَّلَفِ، وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّا نَعْلَمُ مِنْ دِينِ الصَّحَابَةِ، وَعَادَتِهِمْ مُبَادَرَتَهُمْ إِلَى تَصْدِيقِ جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، وَالثِّقَةِ بِجَمِيعِ أَخْبَارِهِ فِي أَيِّ بَابٍ كَانَتْ، وَعَنْ أَيِّ شَيْءٍ وَقَعَتْ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ تَوَقُّفٌ، وَلَا تَرَدُّدٌ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا اسْتِثْبَاتٍ عَنْ حَالِهِ عِنْدَ ذَلِكَ، هَلْ وَقَعَ فِيهَا سَهْوٌ أَمْ لَا؟ وَلَمَّا احْتَجَّ ابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ الْيَهُودِيُّ عَلَى عُمَرَ حِينَ أَجْلَاهُمْ مِنْ خَيْبَرَ بِإِقْرَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ عُمَرُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ بِكَ إِذَا أُخْرِجْتَ مِنْ خَيْبَرَ؟» فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: كَانَتْ هَزِيلَةً مِنْ أَبِي الْقَاسِمِ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ أَخْبَارَهُ، وَآثَارَهُ، وَسِيَرَهُ، وَشَمَائِلَهُ مُعْتَنًى بِهَا مُسْتَقْصًى تَفَاصِيلُهَا، وَلَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا اسْتِدْرَاكُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغَلَطٍ فِي قَوْلٍ قَالَهُ، أَوِ اعْتِرَافُهُ بِوَهْمٍ فِي شَيْءٍ أَخْبَرَ بِهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ مِنْ قِصَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي رُجُوعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا أَشَارَ بِهِ عَلَى الْأَنْصَارِ فِي تَلْقِيحِ النَّخْلِ، وَكَانَ ذَلِكَ رَأْيًا لَا خَبَرًا، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا فَعَلْتُ الَّذِي حَلَفْتُ عَلَيْهِ، وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي». وَقَوْلِهِ: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ... الْحَدِيثَ». وَقَوْلِهِ: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ حَتَّى يَبْلُغَ الْمَاءُ الْجَدْرَ» كَمَا سَنُبَيِّنُ كُلَّ مَا فِي هَذَا مِنْ مُشْكِلِ مَا فِي هَذَا الْبَابِ، وَالَّذِي بَعْدَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، مَعَ أَشْبَاهِهِمَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْكَذِبَ مَتَى عُرِفَ مِنْ أَحَدٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَخْبَارِ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ اسْتُرِيبَ بِخَبَرِهِ، وَاتُّهِمَ فِي حَدِيثِهِ، وَلَمْ يَقَعْ قَوْلُهُ فِي النُّفُوسِ مَوْقِعًا، وَلِهَذَا تَرَكَ الْمُحَدِّثُونَ، وَالْعُلَمَاءُ الْحَدِيثَ عَمَّنْ عُرِفَ بِالْوَهْمِ، وَالْغَفْلَةِ، وَسُوءِ الْحِفْظِ، وَكَثْرَةِ الْغَلَطِ لِلْمُرُوءَةِ، مَعَ ثِقَتِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ تَعَمُّدَ الْكَذِبِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا مَعْصِيَةٌ، وَالْإِكْثَارَ مِنْهُ كَبِيرَةٌ بِإِجْمَاعٍ، مُسْقِطٌ لِلْمُرُوءَةِ. وَكُلُّ هَذَا مِمَّا يُنَزَّهُ عَنْهُ مَنْصِبُ النُّبُوَّةِ، وَالْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنْهُ فِيمَا يُسْتَبْشَعُ، وَيُسْتَشْنَعُ، وَيَشِيعُ مِمَّا يُخِلُّ بِصَاحِبِهَا، وَيُزْرِي بِقَائِلِهَا لَاحِقَةٌ بِذَلِكَ. وَأَمَّا فِيمَا لَا يَقَعُ هَذَا الْمَوْقِعَ فَإِنْ عَدَدْنَاهَا مِنَ الصَّغَائِرِ فَهَلْ تَجْرِي عَلَى حُكْمِهَا فِي الْخِلَافِ فِيهَا؟ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. وَالصَّوَابُ تَنْزِيهُ النُّبُوَّةِ عَنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، سَهْوِهِ وَعَمْدِهِ، إِذْ عُمْدَةُ النُّبُوَّةِ الْبَلَاغُ، وَالْإِعْلَامُ، وَالتَّبْيِينُ، وَتَصْدِيقُ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَجْوِيزُ شَيْءٍ مِنْ هَذَا قَادِحٌ فِي ذَلِكَ، وَمُشَكِّكٌ فِيهِ، مُنَاقِضٌ لِلْمُعْجِزَةِ، فَلْنَقْطَعْ عَنْ يَقِينٍ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ خُلْفٌ فِي الْقَوْلِ فِي وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، لَا بِقَصْدٍ، وَلَا بِغَيْرِ قَصْدٍ، وَلَا تَتَسَامَحُ مَعَ مَنْ سَامَحَ فِي تَجْوِيزِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حَالَ السَّهْوِ مِمَّا لَيْسَ طَرِيقُهُ الْبَلَاغَ، نَعَمْ، وَبِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَلَا الِاتِّسَامُ بِهِ فِي أُمُورِهِمْ، وَأَحْوَالِ دُنْيَاهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يُزْرِي، وَيُرِيبُ، وَيُنَفِّرُ الْقُلُوبَ عَنْ تَصْدِيقِهِمْ بَعْدُ. وَانْظُرْ أَحْوَالَ أَهْلِ عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ، وَسُؤَالِهِمْ عَنْ حَالِهِ فِي صِدْقِ لِسَانِهِ وَمَا عُرِفُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَاعْتَرَفُوا بِهِ مِمَّا عُرِفَ، وَاتَّفَقَ النَّقْلُ عَلَى عِصْمَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ قَبْلُ وَبَعْدُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنَ الْآثَارِ فِيهِ فِي الْبَابِ الثَّانِي أَوَّلَ الْكِتَابِ مَا يُبَيِّنُ لَكَ صِحَّةَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ السَّهْوِ الَّذِي حَدَّثَنَا بِهِ الْفَقِيهُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو الْأَصْبَغِ بْنُ سَهْلٍ ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْفَخَّارِ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، نَا يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ، فَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ، فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ». وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: «مَا قَصُرَتْ، وَمَا نَسِيتُ.». الْحَدِيثَ بِقِصَّتِهِ، فَأَخْبَرَهُ بِنَفْيِ الْحَالَتَيْنِ، وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ، وَقَدْ كَانَ أَحَدُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ ذُو الْيَدَيْنِ: قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ... فَاعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ، وَإِيَّاكَ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ أَجْوِبَةً، بَعْضُهَا بِصَدَدِ الْإِنْصَافِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ بِنِيَّةِ التَّعَسُّفِ، وَالِاعْتِسَافِ، وَهَا أَنَا أَقُولُ: أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَجْوِيزِ الْوَهْمِ، وَالْغَلَطِ فِيمَا لَيْسَ طَرِيقُهُ مِنَ الْقَوْلِ الْبَلَاغُ وَهُوَ الَّذِي زَيَّفْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فَلَا اعْتِرَاضَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَشِبْهِهِ. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَمْنَعُ السَّهْوَ فِي أَفْعَالِهِ جُمْلَةً، وَيَرَى أَنَّهُ فِي مِثْلِ هَذَا عَامِدٌ لِصُورَةِ النِّسْيَانِ لِيَسُنَّ، فَهُوَ صَادِقٌ فِي خَبَرِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَنْسَ، وَلَا قَصُرَتْ، وَلَكِنَّهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَعَمَّدَ هَذَا الْفِعْلَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِمَنِ اعْتَرَاهُ مِثْلُهُ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ، وَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا عَلَى إِحَالَةِ السَّهْوِ عَلَيْهِ فِي الْأَقْوَالِ، وَتَجْوِيزِ السَّهْوِ عَلَيْهِ فِيمَا لَيْسَ طَرِيقُهُ الْقَوْلَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فَفِيهِ أَجْوِبَةٌ، مِنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ عَنِ اعْتِقَادِهِ، وَضَمِيرِهِ، أَمَّا إِنْكَارُ الْقَصْرِ فَحَقٌّ، وَصِدْقٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. وَأَمَّا النِّسْيَانُ فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اعْتِقَادِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَنْسَ فِي ظَنِّهِ، فَكَأَنَّهُ قَصَدَ الْخَبَرَ عَنْ ظَنِّهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ، وَهَذَا صِدْقٌ أَيْضًا. وَوَجْهٌ ثَانٍ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَمْ أَنْسَ رَاجِعٌ إِلَى السَّلَامِ، أَيْ إِنِّي سَلَّمْتُ قَصْدًا، وَسَهَوْتُ عَنِ الْعَدَدِ، أَيْ لَمْ أَسْهُ فِي نَفْسِ السَّلَامِ، وَهَذَا مُحْتَمَلٌ، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَبْعَدُهُمَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، وَإِنِ احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ مِنْ قَوْلِهِ: كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ: أَيْ لَمْ يَجْتَمِعِ الْقَصْرُ وَالنِّسْيَانُ بَلْ كَانَ أَحَدُهُمَا. وَمَفْهُومُ اللَّفْظِ خِلَافُهُ مَعَ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الصَّحِيحَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «مَا قَصُرَتِ الصَّلَاةُ، وَمَا نَسِيتُ». هَذَا مَا رَأَيْتُ فِيهِ لِأَئِمَّتِنَا، وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ مُحْتَمَلٌ لِلَّفْظِ عَلَى بُعْدِ بَعْضِهَا، وَتَعَسُّفِ الْآخَرِ مِنْهَا. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ - وَفَّقَهُ اللَّهُ-: وَالَّذِي أَقُولُ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّهُ أَقْرَبُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمْ أَنْسَ» إِنْكَارٌ لِلَّفْظِ الَّذِي نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَنْكَرَهُ عَلَى غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ: «بِئْسَ مَا لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ: نَسِيتُ آيَةَ كَذَا، وَكَذَا، وَلَكِنَّهُ نُسِّيَ». وَبِقَوْلِهِ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «لَسْتُ أَنْسَى، وَلَكِنْ أُنَسَّ». فَلَمَّا قَالَ لَهُ السَّائِلُ: أَقْصُرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ؟ أَنْكَرَ قَصْرَهَا كَمَا كَانَ وَنِسْيَانُهُ هُوَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ جَرَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ نَسِيَ حَتَّى سَأَلَ غَيْرَهُ، فَتَحَقَّقَ أَنَّهُ نَسِيَ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِيُسَنَّ، فَقَوْلُهُ عَلَى هَذَا: لَمْ أَنْسَ، وَلَمْ تَقْصُرْ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ صِدْقٌ وَحَقٌّ، لَمْ تَقْصُرْ، وَلَمْ يَنْسَ حَقِيقَةً، وَلَكِنَّهُ نُسِّيَ. وَوَجْهٌ آخَرُ اسْتَثَرْتُهُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْهُو، وَلَا يَنْسَى، وَلِذَلِكَ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ النِّسْيَانَ قَالَ: لِأَنَّ النِّسْيَانَ غَفْلَةٌ، وَآفَةٌ، وَالسَّهْوُ إِنَّمَا هُوَ شَغْلُ بَالٍ، قَالَ: فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْهُو فِي صِلَاتِهِ، وَلَا يَغْفَلُ عَنْهَا، وَكَانَ يَشْغَلُهُ عَنْ حَرَكَاتِ الصَّلَاةِ مَا فِي الصَّلَاةِ، شُغْلًا بِهَا لَا غَفْلَةً عَنْهَا. فَهَذَا إِنْ تَحَقَّقَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ: مَا قَصُرَتْ وَلَا نَسِيتُ خُلْفٌ فِي قَوْلٍ. وَعِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ: مَا قَصُرَتِ الصَّلَاةُ، وَمَا نَسِيتُ بِمَعْنَى التَّرْكِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ وَجْهَيِ النِّسْيَانِ أَرَادَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أُسَلِّمْ مِنْ رَكْعَتَيْنِ تَارِكًا لِإِكْمَالِ الصَّلَاةِ، وَلَكِنِّي نَسِيتُ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنِّي لَأَنْسَى أَوْ أُنَسَّى لِأُسَنَّ». وَأَمَّا قِصَّةُ كَلِمَاتِ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا كِذْبَاتُهُ الثَّلَاثُ الْمَنْصُوصَةُ فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا اثْنَتَانِ: قَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصَّافَّاتِ: 89]. وَقَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}. [الْأَنْبِيَاءِ: 63]، وَقَوْلُهُ لِلْمَلِكِ عَنْ زَوْجَتِهِ: إِنَّهَا أُخْتِي فَاعْلَمْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا خَارِجَةٌ عَنِ الْكَذِبِ، لَا فِي الْقَصْدِ، وَلَا فِي غَيْرِهِ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي بَابِ الْمَعَارِيضِ الَّتِي فِيهَا مَنْدُوحَةٌ عَنِ الْكَذِبِ. أَمَّا قَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصَّافَّاتِ: 89] فَقَالَ الْحَسَنُ، وَغَيْرُهُ: مَعْنَاهُ سَأَسْقَمُ، أَيْ إِنَّ كُلَّ مَخْلُوقٍ مُعَرَّضٌ لِذَلِكَ، فَاعْتَذَرَ لِقَوْمِهِ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَهُمْ إِلَى عِيدِهِمْ بِهَذَا. وَقِيلَ: بَلْ سَقِيمٌ بِمَا قُدِّرَ عَلَيَّ مِنَ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: سَقِيمُ الْقَلْبِ بِمَا أُشَاهِدُهُ مِنْ كُفْرِكُمْ، وَعِنَادِكُمْ. وَقِيلَ: بَلْ كَانَتِ الْحُمَّى تَأْخُذُهُ عِنْدَ طُلُوعِ نَجْمٍ مَعْلُومٍ، فَلَمَّا رَآهُ اعْتَذَرَ بِعَادَتِهِ. وَكُلُّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ كَذِبٌ، بَلْ هُوَ خَبَرٌ صَحِيحٌ صِدْقٌ. وَقِيلَ: بَلْ عَرَّضَ بِسَقَمِ حُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ، وَضَعْفِ مَا أَرَادَ بَيَانَهُ لَهُمْ مِنْ جِهَةِ النُّجُومِ الَّتِي كَانُوا يَشْتَغِلُونَ بِهَا، وَأَنَّهُ أَثْنَاءَ نَظَرِهِ فِي ذَلِكَ، وَقَبْلَ اسْتِقَامَةِ حُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ سَقَمٍ وَمَرَضٍ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَشُكَّ هُوَ، وَلَا ضَعُفَ إِيمَانُهُ وَلَكِنَّهُ ضَعُفَ فِي اسْتِدْلَالِهِ عَلَيْهِمْ، وَسَقِمَ نَظَرُهُ، كَمَا يُقَالُ: حُجَّةٌ سَقِيمَةٌ، وَنَظَرٌ مَعْلُولٌ، حَتَّى أَلْهَمَهُ اللَّهُ بِاسْتِدْلَالِهِ، وَصِحَّةِ حُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ بِالْكَوَاكِبِ، وَالشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ مَا نَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدَّمْنَا بَيَانَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الْأَنْبِيَاءِ: 63] الْآيَةَ. فَإِنَّهُ عَلَّقَ خَبَرَهُ بِشَرْطِ نُطْقِهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَ يَنْطِقُ فَهُوَ فِعْلُهُ عَلَى طَرِيقِ التَّبْكِيتِ لِقَوْمِهِ. وَهَذَا صِدْقٌ أَيْضًا، وَلَا خُلْفَ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أُخْتِي فَقَدْ بَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ، وَقَالَ: فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ، وَهُوَ صِدْقٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الْحُجُرَاتِ: 10]. فَإِنْ قُلْتَ: فَهَذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَمَّاهَا كِذْبَاتٍ، وَقَالَ: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ» وَقَالَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: «وَيَذْكُرُ كِذْبَاتِهِ» فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِكَلَامٍ صُورَتُهُ صُورَةُ الْكَذِبِ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا فِي الْبَاطِنِ إِلَّا هَذِهِ الْكَلِمَاتِ. وَلَمَّا كَانَ مَفْهُومُ ظَاهِرِهَا خِلَافَ بَاطِنِهَا أَشْفَقَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مِنْ مُؤَاخَذَتِهِ بِهَا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ غَزْوَةً، وَرَّى بِغَيْرِهَا فَلَيْسَ فِيهِ خُلْفٌ فِي الْقَوْلِ، إِنَّمَا هُوَ سَتْرُ مَقْصِدِهِ، لِئَلَّا يَأْخُذَ عَدُوُّهُ حِذْرَهُ، وَكَتَمَ وَجْهَ ذَهَابِهِ بِذِكْرِ السُّؤَالِ عَنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، وَالْبَحْثِ عَنْ أَخْبَارِهِ، وَالتَّعْرِيضِ بِذِكْرِهِ، لَا أَنَّهُ يَقُولُ: تَجَهَّزُوا إِلَى غَزْوَةِ كَذَا، أَوْ وِجْهَتُنَا إِلَى مَوْضِعِ كَذَا خِلَافَ مَقْصِدِهِ، فَهَذَا لَمْ يَكُنْ، وَالْأَوَّلُ لَيْسَ فِيهِ خَبَرٌ يَدْخُلُهُ الْخُلْفُ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ سُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ- الْحَدِيثَ-، وَفِيهِ قَالَ: بَلْ عَبْدٌ لَنَا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ أَعْلَمُ مِنْكَ. وَهَذَا خَبَرٌ قَدْ أَنْبَأَنَا اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ. فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ بَعْضِ طُرُقِهِ الصَّحِيحَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟. فَإِذَا كَانَ جَوَابُهُ عَلَى عِلْمِهِ فَهُوَ خَبَرُ حَقٍّ وَصِدْقٍ لَا خُلْفَ فِيهِ، وَلَا شُبْهَةَ. وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ فَمَحْمَلُهُ عَلَى ظَنِّهِ وَمُعْتَقَدِهِ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ، لِأَنَّ حَالَهُ فِي النُّبُوَّةِ، وَالِاصْطِفَاءِ يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَيَكُونُ إِخْبَارُهُ بِذَلِكَ أَيْضًا عَنِ اعْتِقَادِهِ، وَحُسْبَانِهِ صِدْقًا لَا خُلْفَ فِيهِ. وَقَدْ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: أَنَا أَعْلَمُ بِمَا تَقْتَضِيهِ وَظَائِفُ النُّبُوَّةِ مِنْ عُلُومِ التَّوْحِيدِ، وَأُمُورِ الشَّرِيعَةِ، وَسِيَاسَةِ الْأُمَّةِ، وَيَكُونُ الْخَضِرُ أَعْلَمَ مِنْهُ بِأُمُورٍ أُخَرَ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِعْلَامِ اللَّهِ مِنْ عُلُومِ غَيْبِهِ، كَالْقَصَصِ الْمَذْكُورَةِ فِي خَبَرِهِمَا، فَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْلَمَ عَلَى الْجُمْلَةِ بِمَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا أَعْلَمُ عَلَى الْخُصُوصِ بِمَا أُعْلِمَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الْكَهْفِ: 65]. وَعَتْبُ اللَّهِ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِيمَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ إِنْكَارُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} أَوْ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ قَوْلَهُ شَرْعًا، وَذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِئَلَّا يَقْتَدِيَ بِهِ فِيهِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ كَمَالُهُ فِي تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ، وَعُلُوِّ دَرَجَتِهِ مِنْ أُمَّتِهِ، فَيَهْلِكَ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ مَدْحِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ، وَيُورِثُهُ ذَلِكَ مِنَ الْكِبْرِ، وَالْعُجْبِ، وَالتَّعَاطِي، وَالدَّعْوَى، وَإِنْ نُزِّهَ عَنْ هَذِهِ الرَّذَائِلِ الْأَنْبِيَاءُ فَغَيْرُهُمْ بِمَدْرَجَةِ سَبِيلِهَا، وَدَرْكِ لَيْلِهَا إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ، فَالتَّحَفُّظُ أَوْلَى لِنَفْسِهِ، وَلِيُقْتَدَى بِهِ، وَلِذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَفُّظًا مِنْ مِثْلِ هَذَا مِمَّا قَدْ عُلِمَ بِهِ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَلَا فَخْرَ». وَهَذَا الْحَدِيثُ إِحْدَى حُجَجِ الْقَائِلِينَ بِنُبُوَّةِ الْخَضِرِ، لِقَوْلِهِ فِيهِ: أَنَا أَعْلَمُ مِنْ مُوسَى. وَلَا يَكُونُ الْوَلِيُّ أَعْلَمَ مِنَ النَّبِيِّ. وَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ فَيَتَفَاضَلُونَ فِي الْمَعَارِفِ. وَبِقَوْلِهِ: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} فَدَلَّ أَنَّهُ بِوَحْيٍ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَهُ بِأَمْرِ نَبِيٍّ آخَرَ. وَهَذَا يَضْعُفُ، لِأَنَّهُ مَا عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ مُوسَى نَبِيٌّ غَيْرُهُ إِلَّا أَخَاهُ هَارُونَ، وَمَا نَقَلَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ شَيْئًا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. وَإِذَا جَعَلْنَا [أَعْلَمَ مِنْكَ] لَيْسَ عَلَى الْعُمُومِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَفِي قَضَايَا مُعَيَّنَةٍ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ الْخَضِرِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: كَانَ مُوسَى أَعْلَمَ مِنَ الْخَضِرِ فِيمَا أَخَذَ عَنِ اللَّهِ، وَالْخَضِرُ أَعْلَمُ فِيمَا دُفِعَ إِلَيْهِ مِنْ مُوسَى. وَقَالَ آخَرُ: إِنَّمَا أُلْجِئَ مُوسَى إِلَى الْخَضِرِ لِلتَّأْدِيبِ لَا لِلتَّعْلِيمِ.
وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَوَارِحِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ جُمْلَتِهَا الْقَوْلُ بِاللِّسَانِ فِيمَا عَدَا الْخَبَرَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْكَلَامُ، وَالِاعْتِمَادُ بِالْقَلْبِ فِيمَا عَدَا التَّوْحِيدَ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ مَعَارِفِهِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ فَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْفَوَاحِشِ، وَالْكَبَائِرِ الْمُوبِقَاتِ. وَمُسْتَنَدُ الْجُمْهُورِ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ ، وَمَنَعَهَا غَيْرُهُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ مَعَ الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ قَوْلُ الْكَافَّةِ، وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ . وَكَذَلِكَ لَا خِلَافَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ كِتْمَانِ الرِّسَالَةِ، وَالتَّقْصِيرِ فِي التَّبْلِيغِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي الْعِصْمَةَ مِنْهُ الْمُعْجِزَةُ، مَعَ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْكَافَّةِ. وَالْجُمْهُورُ قَائِلُونَ بِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ مُعْتَصِمُونَ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَكَسْبِهِمْ إِلَّا حُسَيْنًا النَّجَّارَ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي أَصْلًا. وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَجَوَّزَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ، وَغَيْرُهُمْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ ، وَغَيْرِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُحَدِّثِينَ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ. وَسَنُورِدُ بَعْدَ هَذَا مَا احْتَجُّوا بِهِ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى إِلَى الْوَقْفِ، وَقَالُوا: الْعَقْلُ لَا يُحِيلُ وُقُوعَهَا مِنْهُمْ، وَلَمْ يَأْتِ فِي الشَّرْعِ قَاطِعٌ بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الصَّغَائِرِ كَعِصْمَتِهِمْ مِنَ الْكَبَائِرِ، قَالُوا: لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الصَّغَائِرِ، وَتَعْيِينِهَا مِنَ الْكَبَائِرِ، وَإِشْكَالِ ذَلِكَ، وَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَغَيْرِهِ: إِنَّ كُلَّ مَا عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ مِنْهَا الصَّغِيرُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَمُخَالَفَةُ الْبَارِي فِي أَمْرٍ كَانَ يَجِبُ كَوْنُهُ كَبِيرَةً. قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ : لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فِي مَعَاصِي اللَّهِ صَغِيرَةً إِلَّا عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا تُغْتَفَرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَلَا يَكُونُ لَهَا حُكْمٌ مَعَ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْكَبَائِرِ إِذَا لَمْ يُتَبْ مِنْهَا فَلَا يُحْبِطُهَا شَيْءٌ. وَالْمَشِيئَةُ فِي الْعَفْوِ عَنْهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ ، وَجَمَاعَةِ أَئِمَّةِ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا: وَلَا يَجِبُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ أَنْ يَخْتَلِفَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ تَكْرَارِ الصَّغَائِرِ، وَكَثْرَتِهَا، إِذْ يُلْحِقُهَا ذَلِكَ بِالْكَبَائِرِ، وَلَا فِي صَغِيرَةٍ أَدَّتْ إِلَى إِزَالَةِ الْحِشْمَةِ، وَأَسْقَطَتِ الْمُرُوءَةَ، وَأَوْجَبَتِ الْإِزْرَاءَ، وَالْخَسَاسَةَ، فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُعْصَمُ عَنْهُ الْأَنْبِيَاءُ إِجْمَاعًا، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يَحُطُّ مَنْصِبَهُ الْمُتَّسِمَ بِهِ، وَيُزْرِي بِصَاحِبِهِ، وَيُنَفِّرُ الْقُلُوبَ عَنْهُ، وَالْأَنْبِيَاءُ مُنَزَّهُونَ عَنْ ذَلِكَ بَلْ يَلْحَقُ بِهَذَا مَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْمُبَاحِ، فَأَدَّى إِلَى مِثْلِهِ، لِخُرُوجِهِ بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ عَنِ اسْمِ الْمُبَاحِ إِلَى الْحَظْرِ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى عِصْمَتِهِمْ مِنْ مُوَاقَعَةِ الْمَكْرُوهِ قَصْدًا. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الصَّغَائِرِ بِالْمَصِيرِ إِلَى امْتِثَالِ أَفْعَالِهِمْ، وَاتِّبَاعِ آثَارِهِمْ، وَسِيَرِهِمْ مُطْلَقًا. وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِ قَرِينَةٍ، بَلْ مُطْلَقًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ ذَلِكَ. وَحَكَى ابْنُ خُوَيْزَ مِنْدَاذْ وَأَبُو الْفَرَجِ عَنْ مَالِكٍ الْتِزَامَ ذَلِكَ وُجُوبًا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَبْهَرِيِّ وَابْنِ الْقَصَّارِ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا. وَقَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَابْنِ سُرَيْجٍ وَالْإِصْطَخْرِيِّ وَابْنِ خَيْرَانَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ. وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ نَدْبٌ. وَذَهَبَ طَائِفَةٌ إِلَى الْإِبَاحَةِ. وَقَيَّدَ بَعْضُهُمُ الِاتِّبَاعَ فِيمَا كَانَ مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَعُلِمَ بِهِ مَقْصِدُ الْقُرْبَةِ. وَمَنْ قَالَ بِالْإِبَاحَةِ فِي أَفْعَالِهِ لَمْ يُقَيِّدْ. قَالَ: فَلَوْ جَوَّزْنَا عَلَيْهِمُ الصَّغَائِرَ لَمْ يُمْكِنِ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي أَفْعَالِهِمْ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِ يَتَمَيَّزُ مَقْصِدُهُ مِنَ الْقُرْبَةِ أَوِ الْإِبَاحَةِ، أَوِ الْحَظْرِ، أَوِ الْمَعْصِيَةِ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُؤْمَرَ الْمَرْءُ بِامْتِثَالِ أَمْرٍ لَعَلَّهُ مَعْصِيَةٌ، لَا سِيَّمَا عَلَى مَنْ يَرَى مِنَ الْأُصُولِيِّينَ تَقْدِيمَ الْفِعْلِ عَلَى الْقَوْلِ إِذَا تَعَارَضَا. نَزِيدُ هَذَا حُجَّةً بِأَنْ نَقُولَ: مَنْ جَوَّزَ الصَّغَائِرَ، وَمَنْ نَفَاهَا عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى مُنْكَرٍ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَأَنَّهُ مَتَى رَأَى شَيْئًا فَسَكَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلَّ عَلَى جَوَازِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا حَالَهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، ثُمَّ يَجُوزُ وُقُوعُهُ مِنْهُ فِي نَفْسِهِ. وَعَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ تَجِبُ عِصْمَتُهُمْ مِنْ مُوَاقَعَةِ الْمَكْرُوهِ، كَمَا قِيلَ. وَإِذِ الْحَظْرُ أَوِ النَّدْبُ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِفِعْلِهِ يُنَافِي الزَّجْرَ وَالنَّهْيَ عَنْ فِعْلِ الْمَكْرُوهِ. وَأَيْضًا فَقَدْ عُلِمَ مِنْ دِينِ الصَّحَابَةِ قَطْعًا الِاقْتِدَاءُ بِأَفْعَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ تَوَجَّهَتْ، وَمِنْ كُلِّ فَنٍّ كَالِاقْتِدَاءِ بِأَقْوَالِهِ، فَقَدْ نَبَذُوا خَوَاتِيمَهُمْ حِينَ نَبَذَ خَاتَمَهُ، وَخَلَعُوا نِعَالَهُمْ حِينَ خَلَعَ، وَاحْتِجَاجُهُمْ بِرُؤْيَةِ ابْنِ عُمَرَ إِيَّاهُ جَالِسًا لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ مُسْتَقْبِلًا بَيْتَ الْمَقْدِسِ. وَاحْتَجَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي غَيْرِ شَيْءٍ مِمَّا بَابُهُ الْعِبَادَةُ أَوِ الْعَادَةُ بِقَوْلِهِ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ، وَقَالَ: «هَلَّا خَبَّرْتِيهَا أَنِّي أُقَبِّلُ، وَأَنَا صَائِمٌ!» وَقَالَتْ عَائِشَةُ مُحْتَجَّةً: كُنْتُ أَفْعَلُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الَّذِي أُخْبِرَ بِمِثْلِ هَذَا عَنْهُ، وَقَالَ: «يُحِلُّ اللَّهُ لِرَسُولِهِ مَا يَشَاءُ» وَقَالَ: «إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِهِ». وَالْآثَارُ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ نُحِيطَ عَلَيْهَا، لَكِنَّهُ يُعْلَمُ مِنْ مَجْمُوعِهَا عَلَى الْقَطْعِ اتِّبَاعُهُمْ أَفْعَالَهُ، وَاقْتِدَاؤُهُمْ بِهَا. وَلَوْ جَوَّزُوا عَلَيْهِ الْمُخَالَفَةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لَمَا اتَّسَقَ هَذَا وَلَنُقِلَ عَنْهُمْ، وَظَهَرَ بَحْثُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمَا أَنْكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْآخَرِ قَوْلَهُ، وَاعْتِذَارُهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا الْمُبَاحَاتُ فَجَائِزٌ وُقُوعُهَا مِنْهُمْ، إِذْ لَيْسَ فِيهَا قَدْحٌ، بَلْ هِيَ مَأْذُونٌ فِيهَا، وَأَيْدِيهِمْ كَأَيْدِي غَيْرِهِمْ مُسَلَّطَةٌ عَلَيْهَا، إِلَّا أَنَّهُمْ بِمَا خُصُّوا بِهِ مِنْ رَفِيعِ الْمَنْزِلَةِ، وَشُرِحَتْ لَهُ صُدُورُهُمْ مِنْ أَنْوَارِ الْمَعْرِفَةِ، وَاصْطُفُوا بِهِ مِنْ تَعَلُّقِ هِمَمِهِمْ بِاللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ لَا يَأْخُذُونَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ إِلَّا الضَّرُورَاتِ مِمَّا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَى سُلُوكِ طَرِيقِهِمْ، وَصَلَاحِ دِينِهِمْ، وَضَرُورَةِ دُنْيَاهُمْ، وَمَا أُخِذَ عَلَى هَذِهِ السَّبِيلِ الْتَحَقَ طَاعَةً، وَصَارَ قُرْبَةً، كَمَا بَيَّنَّا مِنْهُ أَوَّلَ الْكِتَابِ طَرَفًا فِي خِصَالِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَانَ لَكَ عَظِيمُ فَضْلِ اللَّهِ عَلَى نَبِيِّنَا، وَعَلَى سَائِرِ أَنْبِيَائِهِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- بِأَنْ جَعَلَ أَفْعَالَهَمْ قُرُبَاتٍ، وَطَاعَاتٍ بَعِيدَةً عَنْ وَجْهِ الْمُخَالَفَةِ، وَرَسْمِ الْمَعْصِيَةِ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْمَعَاصِي قَبْلَ النُّبُوَّةِ، فَمَنَعَهَا قَوْمٌ، وَجَوَّزَهَا آخَرُونَ. وَالصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَنْزِيهُهُمْ مَنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَعِصْمَتُهُمْ مِنْ كُلِّ مَا يُوجِبُ الرَّيْبَ، فَكَيْفَ وَالْمَسْأَلَةُ تَصَوُّرُهَا كَالْمُمْتَنِعِ، فَإِنَّ الْمَعَاصِي وَالنَّوَاهِي إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ تَقَرُّرِ الشَّرْعِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَالِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، هَلْ كَانَ مُتَّبِعًا لِشَرْعٍ قَبْلَهُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ جَمَاعَةٌ: لَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لِشَيْءٍ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، فَالْمَعَاصِي عَلَى هَذَا الْقَوْلِ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ، وَلَا مُعْتَبَرَةٍ فِي حَقِّهِ حِينَئِذٍ، إِذِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَوَامِرِ، وَالنَّوَاهِي، وَتَقَرُّرِ الشَّرِيعَةِ. ثُمَّ اخْتَلَفَتْ حُجَجُ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ عَلَيْهَا، فَذَهَبَ سَيْفُ السُّنَّةِ، وَمُقْتَدَى فِرَقِ الْأُمَّةِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إِلَى أَنَّ طَرِيقَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ النَّقْلُ، وَمَوَارِدُ الْخَبَرِ مِنْ طَرِيقِ السَّمْعِ، وَحُجَّتُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَنُقِلَ، وَلَمَا أَمْكَنَ كَتْمُهُ وَسَتْرُهُ فِي الْعَادَةِ، إِذْ كَانَ مِنْ مُهِمِّ أَمْرِهِ، وَأَوْلَى مَا اهْتُبِلَ بِهِ مِنْ سِيرَتِهِ، وَلَفَخَرَ بِهِ أَهْلُ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ، وَلَا احْتَجُّوا بِهِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُؤْثَرْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ جُمْلَةً. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى امْتِنَاعِ ذَلِكَ عَقْلًا، قَالُوا: لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا مَنْ عُرِفَ تَابِعًا، وَبَنَوْا هَذَا عَلَى التَّحْسِينِ، وَالتَّقْبِيحِ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ غَيْرُ سَدِيدَةٍ، وَاسْتِنَادُ ذَلِكَ إِلَى النَّقْلِ كَمَا تَقَدَّمَ لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ أَوْلَى وَأَظْهَرُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى بِالْوَقْفِ فِي أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَرْكِ قَطْعِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي ذَلِكَ، إِذْ لَمْ يُحِلْ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ مِنْهَا الْعَقْلُ، وَلَا اسْتَبَانَ فِي أَحَدِهِمَا طَرِيقُ النَّقْلِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْمَعَالِي. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ ثَالِثَةٌ: إِنَّهُ كَانَ عَامِلًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا: هَلْ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الشَّرْعُ أَمْ لَا؟ فَوَقَفَ بَعْضُهُمْ عَنْ تَعْيِينِهِ وَأَحْجَمَ، وَجَسَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى التَّعْيِينِ وَصَمَّمَ. ثُمَّ اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْمُعَيَّنَةُ فِيمَنْ كَانَ يَتْبَعُ، فَقِيلَ نُوحٌ، وَقِيلَ إِبْرَاهِيمُ، وَقِيلَ مُوسَى، وَقِيلَ عِيسَى- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ-. فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْمَذَاهِبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَالْأَظْهَرُ فِيهَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ ، وَأَبْعَدُهَا مَذَاهِبُ الْمُعَيَّنِينَ، إِذْ لَوْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَنُقِلَ كَمَا قَدَّمْنَا، وَلَمْ يَخْفَ جُمْلَةً، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي أَنَّ عِيسَى آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَزِمَتْ شَرِيعَتُهُ مَنْ جَاءَ بَعْدَهَا، إِذْ لَمْ يَثْبُتْ عُمُومُ دَعْوَةِ عِيسَى، بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِنَبِيٍّ دَعْوَةٌ عَامَّةٌ إِلَّا لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا حُجَّةَ أَيْضًا لِلْآخَرِ فِي قَوْلِهِ: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النَّحْلِ: 123]، وَلَا لِلْآخَرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشُّورَى: 13]، فَمَحْمَلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ فِي التَّوْحِيدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الْأَنْعَامِ: 90]. وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ مَنْ لَمْ يُبْعَثْ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ شَرِيعَةٌ تَخُصُّهُ، كَيُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ بِرَسُولٍ. وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى جَمَاعَةً مِنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ شَرَائِعُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا، فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَبَعْدَ هَذَا فَهَلْ يَلْزَمُ مَنْ قَالَ بِمَنْعِ الِاتِّبَاعِ هَذَا الْقَوْلُ فِي سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ يُخَالِفُونَ نَبِيَّهُمْ؟. أَمَّا مَنْ مَنَعَ الِاتِّبَاعَ عَقْلًا فَيَطَّرِدُ أَصْلُهُ فِي كُلِّ رَسُولٍ بِلَا مِرْيَةٍ. وَأَمَّا مَنْ مَالَ إِلَى النَّقْلِ فَأَيْنَمَا تُصُوِّرَ لَهُ، وَتُقُرِّرَ اتَّبَعَهُ. وَمَنْ قَالَ بِالْوَقْفِ فَعَلَى أَصْلِهِ. وَمَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الِاتِّبَاعِ لِمَنْ قَبْلَهُ يَلْتَزِمُهُ بِمَسَاقِ حُجَّتِهِ فِي كُلِّ نَبِيٍّ.
هَذَا حُكْمُ مَا تَكُونُ الْمُخَالَفَةُ فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ عَنْ قَصْدٍ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى مَعْصِيَةً، وَيَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ. وَأَمَّا مَا يَكُونُ بِغَيْرِ قَصْدٍ وَتَعَمُّدٍ، كَالسَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ فِي الْوَظَائِفِ الشَّرْعِيَّةِ مِمَّا تَقَرَّرَ الشَّرْعُ بِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ بِهِ، وَتَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ، فَأَحْوَالُ الْأَنْبِيَاءِ فِي تَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ، وَكَوْنِهِ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ لَهُمْ مَعَ أُمَمِهِمْ سَوَاءٌ. ثُمَّ ذَلِكَ عَلَى نَوْعَيْنِ: مَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ، وَتَقْرِيرُ الشَّرْعِ، وَتَعَلُّقُ الْأَحْكَامِ، وَتَعْلِيمُ الْأُمَّةِ بِالْفِعْلِ، وَأَخْذُهُمْ بِاتِّبَاعِهِ فِيهِ، وَمَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ هَذَا مِمَّا يَخْتَصُّ بِنَفْسِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَحُكْمُهُ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ حُكْمُ السَّهْوِ فِي الْقَوْلِ فِي هَذَا الْبَابِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الِاتِّفَاقَ عَلَى امْتِنَاعِ ذَلِكَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِصْمَتَهُ مِنْ جَوَازِهِ عَلَيْهِ قَصْدًا أَوْ سَهْوًا، فَكَذَلِكَ قَالُوا: الْأَفْعَالُ فِي هَذَا الْبَابِ لَا يَجُوزُ طُرُوُّ الْمُخَالَفَةِ فِيهَا لَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا، لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْقَوْلِ مِنْ جِهَةِ التَّبْلِيغِ وَالْأَدَاءِ، وَطُرُوُّ هَذِهِ الْعَوَارِضِ عَلَيْهَا يُوجِبُ التَّشْكِيكَ، وَيُسَبِّبُ الْمَطَاعِنَ. وَاعْتَذَرُوا عَنْ أَحَادِيثِ السَّهْوِ بِتَوْجِيهَاتٍ نَذْكُرُهَا بَعْدَ هَذَا. وَإِلَى هَذَا مَالَ أَبُو إِسْحَاقَ . وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ الْمُخَالَفَةَ فِي الْأَفْعَالِ الْبَلَاغِيَّةِ، وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ سَهْوًا، وَعَنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ جَائِزَةٌ عَلَيْهِ، كَمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَحَادِيثِ السَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ ذَلِكَ، وَبَيْنَ الْأَقْوَالِ الْبَلَاغِيَّةِ لِقِيَامِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ فِي الْقَوْلِ، وَمُخَالَفَةُ ذَلِكَ يُنَاقِضُهَا. وَأَمَّا السَّهْوُ فِي الْأَفْعَالِ فَغَيْرُ مُنَاقِضٍ لَهَا، وَلَا قَادِحٍ فِي النُّبُوَّةِ، بَلْ غَلَطَاتُ الْفِعْلِ، وَغَفَلَاتُ الْقَلْبِ مِنْ سِمَاتِ الْبَشَرِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي» نَعَمْ، بَلْ حَالَةُ النِّسْيَانِ وَالسَّهْوِ هُنَا فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَبُ إِفَادَةِ عِلْمٍ، وَتَقْرِيرِ شَرْعٍ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَنْسَى أَوْ أُنَسَّى لِأَسُنَّ». بَلْ قَدْ رُوِيَ: لَسْتُ أَنْسَى، وَلَكِنْ أُنَسَّى لِأَسُنَّ. وَهَذِهِ الْحَالَةُ زِيَادَةٌ فِي التَّبْلِيغِ، وَتَمَامٌ عَلَيْهِ فِي النِّعْمَةِ بَعِيدَةٌ عَنْ سِمَاتِ النَّقْصِ، وَاعْتِرَاضِ الطَّعْنِ، فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِتَجْوِيزِ ذَلِكَ يَشْتَرِطُونَ أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقَرُّ عَلَى السَّهْوِ، وَالْغَلَطِ، بَلْ يُنَبَّهُونَ عَلَيْهِ، وَيَعْرِفُونَ حُكْمَهُ بِالْفَوْرِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقَبْلَ انْقِرَاضِهِمْ عَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ. وَأَمَّا مَا لَيْسَ طَرِيقُهُ الْبَلَاغَ، وَلَا بَيَانَ الْأَحْكَامِ مِنْ أَفْعَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ أُمُورِ دِينِهِ، وَأَذْكَارِ قَلْبِهِ مِمَّا لَمْ يَفْعَلْهُ لِيُتَّبَعَ فِيهِ، فَالْأَكْثَرُ مِنْ طَبَقَاتِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عَلَى جَوَازِ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ عَلَيْهِ فِيهَا، وَلُحُوقِ الْفَتَرَاتِ، وَالْغَفَلَاتِ بِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ بِمَا كُلِّفَهُ مِنْ مُقَاسَاةِ الْخَلْقِ، وَسِيَاسَاتِ الْأُمَّةِ، وَمُعَانَاةِ الْأَهْلِ، وَمُلَاحَظَةِ الْأَعْدَاءِ، وَلَكِنْ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ التَّكْرَارِ، وَلَا الِاتِّصَالِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ النُّدُورِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ». وَلَيْسَ فِي هَذَا شَيْءٌ يَحُطُّ مِنْ رُتْبَتِهِ، وَيُنَاقِضُ مُعْجِزَتَهُ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى مَنْعِ السَّهْوِ، وَالنِّسْيَانِ، وَالْغَفَلَاتِ، وَالْفَتَرَاتِ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُمْلَةً. وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ، وَأَصْحَابِ عِلْمِ الْقُلُوبِ، وَالْمَقَامَاتِ، وَلَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَذَاهِبُ نَذْكُرُهَا بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْفُصُولِ قَبْلَ هَذَا مَا يَجُوزُ فِيهِ عَلَيْهِ السَّهْوُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا يَمْتَنِعُ، وَأَحَلْنَاهُ فِي الْأَخْبَارِ جُمْلَةً، وَفِي الْأَقْوَالِ الدِّينِيَّةِ قَطْعًا، وَأَجَزْنَا وُقُوعَهُ فِي الْأَفْعَالِ الدِّينِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَتَّبْنَاهُ، وَأَشَرْنَا إِلَى مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ، وَنَحْنُ نَبْسُطُ الْقَوْلَ فِيهِ، وَنَقُولُ: الصَّحِيحُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي سَهْوِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ: أَوَّلُهَا: حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ فِي السَّلَامِ مِنَ اثْنَتَيْنِ. الثَّانِي: حَدِيثُ ابْنِ بُحَيْنَةَ فِي الْقِيَامِ مِنَ اثْنَتَيْنِ. الثَّالِثُ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السَّهْوِ فِي الْفِعْلِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ، وَحِكْمَةُ اللَّهِ فِيهِ لِيُسْتَنَّ بِهِ، إِذِ الْبَلَاغُ بِالْفِعْلِ أَجْلَى مِنْهُ بِالْقَوْلِ، وَأَرْفَعُ لِلِاحْتِمَالِ، وَشَرْطُهُ أَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى السَّهْوِ، بَلْ يَشْعَرُ بِهِ لِيَرْتَفِعَ الِالْتِبَاسُ، وَتَظْهَرَ فَائِدَةُ الْحِكْمَةِ فِيهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، فَإِنَّ النِّسْيَانَ وَالسَّهْوَ فِي الْفِعْلِ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مُضَادٍّ لِلْمُعْجِزَةِ، وَلَا قَادِحٍ فِي التَّصْدِيقِ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي». وَقَالَ: «رَحِمَ اللَّهُ فُلَانًا لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً كُنْتُ أُسْقِطُهُنَّ»، وَيُرْوَى: أُنْسِيتُهُنَّ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَنْسَى، أَوْ أُنَسَّى، لِأَسُنَّ». قِيلَ: هَذَا اللَّفْظُ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي. وَقَدْ رُوِيَ: «إِنِّي لَا أَنْسَى، وَلَكِنْ أُنَسَّى لِأَسُنَّ». وَذَهَبَ ابْنُ نَافِعٍ، وَعِيسَى بْنُ دِينَارٍ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَكٍّ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ التَّقْسِيمُ، أَيْ أَنْسَى أَنَا، أَوْ يُنْسِينِي اللَّهُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ : يَحْتَمِلُ مَا قَالَاهُ أَنْ يُرِيدَ أَنِّي أَنْسَى فِي الْيَقَظَةِ، وَأُنَسَّى فِي النَّوْمِ، أَوْ أَنْسَى عَلَى سَبِيلِ عَادَةِ الْبَشَرِ مِنَ الذُّهُولِ عَنِ الشَّيْءِ، وَالسَّهْوِ، وَأَنْسَى مَعَ إِقْبَالِي عَلَيْهِ، وَتَفَرُّغِي لَهُ، فَأَضَافَ أَحَدَ النِّسْيَانَيْنِ إِلَى نَفْسِهِ، إِذْ كَانَ لَهُ بَعْضُ السَّبَبِ فِيهِ، وَنَفَى الْآخَرَ عَنْ نَفْسِهِ، إِذْ هُوَ فِيهِ كَالْمُضْطَرِّ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمَعَانِي، وَالْكَلَامُ عَلَى الْحَدِيثِ إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْهُو فِي الصَّلَاةِ، وَلَا يَنْسَى، لِأَنَّ النِّسْيَانَ ذُهُولٌ، وَغَفْلَةٌ، وَآفَةٌ، قَالَ: وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَزَّهٌ عَنْهَا، وَالسَّهْوُ شُغْلٌ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْهُو فِي صِلَاتِهِ، وَيُشْغِلُهُ عَنْ حَرَكَاتِ الصَّلَاةِ مَا فِي الصَّلَاةِ، شُغْلًا بِهَا لَا غَفْلَةً عَنْهَا. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: إِنِّي لَا أَنْسَى. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى مَنْعِ هَذَا كُلِّهِ عَنْهُ، وَقَالُوا: إِنَّ سَهْوَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَمْدًا، وَقَصْدًا لِيَسُنَّ. وَهَذَا قَوْلٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ، مُتَنَاقِضُ الْمَقَاصِدِ، لَا يُحْلَى مِنْهُ بِطَائِلٍ، لِأَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ مُتَعَمِّدًا سَاهِيًا فِي حَالٍ. وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ أُمِرَ بِتَعَمُّدِ صُورَةِ النِّسْيَانِ لِيَسُنَّ، لِقَوْلِهِ: إِنِّي لَأَنْسَى أَوْ أُنَسَّى. وَقَدْ أَثْبَتَ أَحَدَ الْوَصْفَيْنِ، وَنَفَى مُنَاقَضَةَ التَّعَمُّدِ، وَالْقَصْدِ، وَقَالَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ». وَقَدْ مَالَ إِلَى هَذَا عَظِيمٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَئِمَّتِنَا، وَهُوَ أَبُو الْمُظَفَّرِ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، وَلَمْ يَرْتَضِهِ غَيْرُهُ مِنْهُمْ، وَلَا أَرْتَضِيهِ، وَلَا حُجَّةَ لِهَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: «إِنِّي لَا أَنْسَى، وَلَكِنْ أُنَسَّى»، إِذْ لَيْسَ فِيهِ نَفْيُ حُكْمِ النِّسْيَانِ بِالْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا فِيهِ نَفْيُ لَفْظِهِ، وَكَرَاهَةُ لَقَبِهِ، كَقَوْلِهِ: «بِئْسَمَا لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ: نَسِيتُ آيَةَ كَذَا، وَلَكِنْ نُسِّيَ»، أَوْ نَفْيُ الْغَفْلَةِ، وَقِلَّةِ الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الصَّلَاةِ عَنْ قَلْبِهِ، لَكِنْ شُغِلَ بِهَا عَنْهَا، وَنَسِيَ بَعْضَهَا بِبَعْضِهَا، كَمَا تَرَكَ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا، وَشُغِلَ بِالتَّحَرُّزِ مِنَ الْعَدُوِّ عَنْهَا، فَشُغِلَ بِطَاعَةٍ عَنْ طَاعَةٍ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي تُرِكَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَرْبَعُ صَلَوَاتٍ: الظُّهْرُ، وَالْعَصْرُ، وَالْمَغْرِبُ، وَالْعَشَاءُ، وَبِهِ احْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ فِي الْخَوْفِ، إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ أَدَائِهَا إِلَى وَقْتِ الْأَمْنِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّامِيِّينَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ حُكْمَ صَلَاةِ الْخَوْفِ كَانَ بَعْدَ هَذَا، فَهُوَ نَاسِخٌ لَهُ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا تَقُولُ فِي نَوْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْوَادِي، وَقَدْ قَالَ: «إِنَّ عَيْنِي تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي». فَاعْلَمْ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ أَجْوِبَةً، مِنْهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِأَنَّ هَذَا حُكْمُ قَلْبِهِ عِنْدَ نَوْمِهِ، وَعَيْنَيْهِ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ، وَقَدْ يَنْدُرُ مِنْهُ غَيْرُ ذَلِكَ، كَمَا يَنْدُرُ مِنْ غَيْرِهِ خِلَافُ عَادَتِهِ. وَيُصَحِّحُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ: «إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا». وَقَوْلُ بِلَالٍ فِيهِ: مَا أُلْقِيَتْ عَلَيَّ نَوْمَةٌ مِثْلُهَا قَطُّ، وَلَكِنْ مِثْلُ هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مِنْهُ لِأَمْرٍ يُرِيدُهُ اللَّهُ مِنْ إِثْبَاتِ حُكْمٍ، وَتَأْسِيسِ سُنَّةٍ، وَإِظْهَارِ شَرْعٍ، كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَيْقَظَنَا، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ بَعْدَكُمْ». الثَّانِي: أَنَّ قَلْبَهُ لَا يَسْتَغْرِقُهُ النَّوْمُ حَتَّى يَكُونَ مِنْهُ الْحَدَثُ فِيهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ مَحْرُوسًا، وَأَنَّهُ كَانَ يَنَامُ حَتَّى يَنْفُخَ، وَحَتَّى يُسْمَعَ غَطِيطُهُ ثُمَّ يُصَلِّي، وَلَا يَتَوَضَّأُ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورُ فِيهِ وُضُوءُهُ عِنْدَ قِيَامِهِ مِنَ النَّوْمِ، فِيهِ نَوْمُهُ مَعَ أَهْلِهِ، فَلَا يُمْكِنُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى وُضُوئِهِ بِمُجَرَّدِ النُّوَّمِ إِذْ لَعَلَّ ذَلِكَ لِمُلَامَسَةِ الْأَهْلِ أَوْ لِحَدَثٍ آخَرَ، فَكَيْفَ وَفِي آخِرِ الْحَدِيثِ نَفْسِهِ: ثُمَّ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. وَقِيلَ: لَا يَنَامُ قَلْبُهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ فِي النَّوْمِ، وَلَيْسَ فِي قِصَّةِ الْوَادِي إِلَّا نَوْمُ عَيْنِهِ عَنْ رُؤْيَةِ الشَّمْسِ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْقَلْبِ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا، وَلَوْ شَاءَ لَرَدَّهَا إِلَيْنَا فِي حِينٍ غَيْرِ هَذَا». فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْلَا عَادَتُهُ مِنَ اسْتِغْرَاقِ النَّوْمِ لَمَا قَالَ لِبِلَالٍ: «اكْلَأْ لَنَا الصُّبْحَ». فَقِيلَ فِي الْجَوَابِ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّغْلِيسُ بِالصُّبْحِ، وَمُرَاعَاةُ أَوَّلِ الْفَجْرِ لَا تَصِحُّ مِمَّنْ نَامَتْ عَيْنُهُ، إِذْ هُوَ ظَاهِرٌ يُدْرَكُ بِالْجَوَارِحِ، فَوَكَّلَ بِلَالًا بِمُرَاعَاةِ أَوَّلِهِ لِيُعْلِمَهُ بِذَلِكَ، كَمَا لَوْ شُغِلَ بِشُغْلٍ غَيْرِ النَّوْمِ عَنْ مُرَاعَاتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْقَوْلِ: نَسِيتُ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي». وَقَالَ: «لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا، وَكَذَا آيَةً كُنْتُ أُنْسِيتُهَا». فَاعْلَمْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، أَمَّا نَهْيُهُ عَنْ أَنْ يُقَالَ نَسِيتُ آيَةَ كَذَا فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا نُسِخَ حِفْظُهُ مِنَ الْقُرْآنِ أَيْ إِنَّ الْغَفْلَةَ فِي هَذَا لَمْ تَكُنْ مِنْهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اضْطَرَّهُ إِلَيْهَا لِيَمْحُوَ مَا يَشَاءُ، وَيُثْبِتَ. وَمَا كَانَ مِنْ سَهْوٍ أَوْ غَفْلَةٍ مِنْ قِبَلِهِ تَذَكَّرَهَا صَلَحَ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: أَنْسَى. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ أَنْ يُضِيفَ الْفِعْلَ إِلَى خَالِقِهِ، وَالْآخَرَ عَلَى طَرِيقِ الْجَوَازِ لِاكْتِسَابِ الْعَبْدِ فِيهِ، وَإِسْقَاطُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا أَسْقَطَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ جَائِزٌ عَلَيْهِ بَعْدَ بَلَاغِ مَا أُمِرَ بِبَلَاغِهِ، وَتَوْصِيلِهِ إِلَى عِبَادِهِ، ثُمَّ يَسْتَذْكِرُهَا مِنْ أُمَّتِهِ، أَوْ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، إِلَّا مَا قَضَى اللَّهُ نَسْخَهُ، وَمَحْوَهُ مِنَ الْقُلُوبِ، وَتَرْكَ اسْتِذْكَارِهِ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْسَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هَذَا سَبِيلُهُ كَرَّةً، وَيَجُوزُ أَنْ يُنَسِّيَهُ مِنْهُ قَبْلَ الْبَلَاغِ مَا لَا يُغَيِّرُ نَظْمًا، وَلَا يُخَلِّطُ حُكْمًا، مِمَّا لَا يُدْخِلُ خَلَلًا فِي الْخَبَرِ، ثُمَّ يُذَكِّرُهُ إِيَّاهُ، وَيَسْتَحِيلُ دَوَامُ نِسْيَانِهِ لَهُ، لَحِفْظِ اللَّهِ كِتَابَهُ، وَتَكْلِيفِهِ بَلَاغَهُ.
|